من المقرّر عند أهل الفقه الدّستوري المُعاصر أنّ انتفاء أحد الأركان المذكورة أعلاه أو حصول خللٍ فيه، على أي نحوٍ من الأنْحاء كان ذلك الخلَل، يكون عنه سقوط الشّرعيّة في الوجود.
أمّا الرُّقعة الجُغرافيّة أو التّراب الوطني فالقصد منه القِطعة الجُغرافيّة من الكرة الأرضيّة، المعروفة حدودها والمعترف بها من قِبَل جيرانها ومن قِبَل المجتمع الدّولي.
وأمّا الشَّعب فالقصْد منه المَجموعَة البشريّة المتآلِفة التي تجمعها روابط إثنيّة وثقافيّة والتي تعيش فوق تراب تلك الرُّقعة الجُغرافيّة.
وأمّا السيادة فتعني ما يكون عن تحقّق الرُّكنَيْن السّابقَيْن في اجتماعهما: تحقّق الوجود الفعلي للشّعب، وليس المُتوهّم، ووجود الرُّقعة الجُغرافيّة الواحدة على نحو ما ذُكِر وهذا من جانبٍ أول، وتحقّق الممارسة الفعليّة لشؤون الحكم والإدارة (= قيام الحكومة) فوق تُراب تلك الرُّقعة وهذا من جانبٍ ثانٍ. والسّيادة، في معنى توفّر الشّرعيّة السّياديّة وممارستها الفعليّة هما، في اجتماعهما معًا، ما يُكسبان كيانًا سياسيَّا ما صفة الدّولة، مع تعدّد الأشكال التّعبيريّة للدّولة (مَلكيّة، جمهوريّة، إمارة، اتحاد فيديرالي... إلخ).
معنَيان لا يجتمعان أبدًا: رفض السّيادة وتحقّق الدّولة
قد لا نكون في حاجة إلى التّنبيه أنّ لفظَا "الشّعب" و"الإقليم أو الرُّقعة الجُغرافيّة" قديمان إلّا أنّ كليْهما يكتَسبان في الفِكر السّياسي الحديث معنَيين لم يكونا لهما في الأزمنة السّابقة على انبثاق العُصور الحديثة. وفي لغة الفَلاسِفة نقول إنّ اللّفظَيْن قديمان فعلًا فنحن نتحدّث عن الشّعوب الكلدانيّة والبابليّة والفرعونيّة واليونانيّة، مثلما أنّنا ننسُب كلًّا من الشّعوب المَذكورة إلى أرضٍ مَعلومَة، إلّا أنّهما مفهومان جديدان، وذلك لأسبابٍ تاريخيّة تتّصل بميلاد الأزمنة الحديثة.
وأخَصّ ما يميّز الدّولة أو الإقليم، في الفكر السّياسي الحديث هو "الحدود". والحدود، على النّحو المَعلوم في الفكر السّياسي الحديث، شرط جوهريّ في وجود الدّولة (على نحو ما ذكرنا) وهو ما لم يكن البتّة كذلك على نحو ما هو الأمر عليه اليوم. وقد يكفي، في التّدليل على ذلك، أنّ دساتير الدول تحرص على جعل نعْت السّيادة مقترنًا بالدّولة فيُكتب بالحروف الواضِحة، وليس من العبث أن تكون الدّول، جميعها مع الاختلاف، شديدةَ الحِرص على ما تعتبره من رموز سيادتِها والأمور الدّالة عليها. وفي عبارةٍ جامعة، نقول إنّهما معنَيان لا يجتمعان أبدًا: رفض السّيادة أو الاستخفاف بها، وتحقّق الدّولة ووجود الدّولة.
ليست هنالك في المعمور دولة واحدة تقبل التّشكيك في سيادتِها وفي ممارستِها للسّيادة فوق أرضِها وفي نظرِها إلى الشّعب الذي تمثّله وإلى مواطنيها، أعضاء ذلك الشّعب. في الفكر السّياسي الحديث، يُشترط في تحقّق الدولة اجتماع شرطَيْ الشّعب (= مجموعة منسجمة من المواطِنين) والرُّقعة الجغرافيّة المعلومة حدودها، على نحو ما ألمحنا إليه، وتشترط في الشّعب شروطًا أخَصّها الإرادة العامّة المشتركة في الانتماء إلى المجموعة الواحدة بغضّ النّظر عن اللّون واللّغة والدّين - وهذا المعنى من الأمور التي تتّصل بالحداثة وترتبط ارتباطًا عُضويًّا بميلاد الأزمنة الحديثة (مما لا يتّسع المجال لبسط القول فيه). بيْدَ أنّ الشّأن في "السّيادة" أو في الرُّكن الضّروري الثّالث مختلف ومُغايِر: لفظًا ومعنًى معًا. فأنت لست تجد في أحاديث السّابقين على الأزمنة الحديثة من يُقرِن الدّولة بالسّيادة، بل أنّ لفظ "السّيادة"، متى وَرَدَ، فإنّه يكون بعيدًا كلّ البُعد عن المعنى المُراد في التصوّر السّياسي الحديث، وهو كذلك مغايِر لأنه يقع خارج دائرة المفكّر فيه.
دُعاة الإسلام السّياسي يُعلنون أنّ بين الإسلام وبين مبدأ "السّيادة" علاقة إقصاء متبادل
خلافًا لكل ما ذكرنا، ينفرد دعاة الإسلام السّياسي بالقول بمهاجمة مفهوم السّيادة، فهو عندهم صِنْوُ الكُفْر الصّريح والإلْحاد المُطلق وهم يرَوْن لـ"دولة الإسلام" -كما تمثّل في وعيِهم طبعًا - نعتًا آخر يعبّر عن ماهيّتها فهي "دولة الخِلافة" ومبدؤها وأساسها القول بمبدأ "الحاكميّة" (= وأصل الاشتقاق عندهم قوله تعالى "إن الحكم إلّا لله"). لا، بل أنّ دُعاة الإسلام السّياسي يذهبون أبعد من ذلك فهم يُعلنون، من جانبٍ أوّل أنّ بين الإسلام وبين مبدأ "السّيادة" علاقة تَنافٍ تامّ وإقصاء متبادل وهم يقرّرون، من جانبٍ ثانٍ أنّ دولة الإسلام ليست تكون ممكنة إلّا بضرب السّيادة والإطاحة برموزها وتجلّياتها. وفي هذه اللّوحة التي يرسمها للإسلام دُعاة الإسلام السّياسي نجدنا أمام مظهرٍ آخر من مظاهِر الإسلام المُفتَرى عليه - وتلك قضيّة أخرى.
(خاص "عروبة 22")