تقدير موقف

عام الأسئلة.. العربيّة!

حسب ما أعلنَتْه المُنظّمات البيئيّة ذات الصّلة، فالعام المُنقضِي هو العام الأكثر سخونة في التّاريخ البَشري (تجاوز متوسّط ​​درجات الحرارة 1.5 درجةً مئويةً فوق مستويات ما قبْل الصّناعة خلال الفترة 1850-1900 عندما بدأ الاستخدام الواسِع النّطاق للوقود الأحفوري).

عام الأسئلة.. العربيّة!

في منطقتنا العربيّة المبتلاة بمُحتلّيها ومُستبدّيها، وبوباء الصّهيونيّة قبل هذا وذاك، لا أعرف إنْ كان توْصيف العام "الأكثر سُخونة" يقتصر على أحوال الطّقس والمُناخ، كما لا أعرف إنْ كان يقتصرُ على ما نعرف ممّا كان في عامٍ فائِت، أم على ما لا نعرف من إجاباتٍ على أسئلةِ عامٍ جديد.

وحدها "المقاومة" أعلنت أن لا أمن بلا عدل فكان ما كان في السابع من أكتوبر

ليس أكثر سخونةً أو لهيبًا من ذلِك القطاع الضّيّق (المحاصَر لسبعة عشر عامًا كاملة) والذي يُقصَف يوميًّا (أكرّر: يوميًّا) للعام الثّاني على التوالي. أكثر من 70 ألف طن من المُتفجّرات، وبما يزيد (لو أُلقِيت مرّة واحدة) عن القوّة التّدميريّة للقُنبلة النّوويّة التي أسقطتها الولايات المتّحدة على هيروشيما وناغازاكي (مزيد من التّفاصيل التّقنيّة هنا).

في مواجهةِ صُهيونيّة الإدارة الأميركيّة، لم ينجح العالم كلّه في إيقاف المَذْبَحَة اليَوميّة (أكرر: اليَوميّة). على الرّغم من أربعة قرارات لمجلس الأمن الدّولي (غير أربعة أخرى أجهضها الفيتو الأميركي)، وعلى الرّغم من قراراتٍ عدّة للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وقرارَيْن للمَحكمتَيْن الدّوليتَيْن، ومِئات البَيانات من كلّ المُنظّمات والهَيئات الأُمميّة، لم تتوقَف عمليّة التّطهير العِرقي التي ربّما كانت الأبشع في العصر الحَديث بعد ما تعرّض له اليهود على يد النّازي في النّصف الأوّل من القرن الماضي.

لولا مجازر جيش الاحتلال في غزّة لكان السّودان العربي صاحب المأساة الإنسانيّة الأفْدَح

لم يَعُدْ سرًّا أنّ هناك خططًا إسرائيليّة (صهيونيّة) مفصّلة لتَفريغ غزّة من سكّانها، وتهجيرهم قسْرًا إلى سيناء، وهو ما عرضْنا بعضًا من تفاصيلِه بالوثائِق (في "عروبة 22")، قبل عامَيْن كاملَيْن. وهو الأمر الذي لا يمكن منطقيًّا فصله عن ما يقوم به المُستوطنون علنًا، وبحماية جيش الاحتلال من اعتداءاتٍ على فلسطينيّي الضّفّة، بهدف إجبارهم على مغادرتِها، ومن ثمّ اتّخاذ القرار المُزمع، والذي ربّما ينتظر مباركةً "ترامبيّةً" بضمّ الضّفّة، أو على الأقلّ تغيير التّركيبة السّكّانيّة (الدّيموغرافيا) بشكلٍ لا يسمح واقعيًّا بأن تكون هناك دولة فلسطينيّة بأي شكلٍ كان في المستقبل.

لم يكن مفاجِئًا، ولكنّه موجع بِلا شكّ، أن يقترِبَ العام من نهايتِه والسّلطة التي ورثَت منظمة "التّحرير" لا تنشغل بالاحتلال "والتحرير" (الذي بات مؤكّدًا بعد الانهيار الواقعي لمسيرة "أوسلو" أن لا طريق له غير المقاومة)، بل تنشغل بقمع "المُقاومين" في جنين، يا لسعادة نتنياهو ومن معه من المخطّطين ليس فقط لتهويد الضّفّة، بل لضمّها رسميًّا إلى إسرائيل (الكبرى). ألم يسمعوا نتنياهو (سبتمبر/أيلول 2023) يعلن من على منصّة الجمعيّة العامّة نهاية "القضية"، وأن لا أحد يملك حقّ الفيتو على خططِه للشّرق الأوسط الجديد الذي لا مكان فيه لدولةٍ فلسطينيّة؟ يومَها انشغل كلّ الانتهازيّين بالبحث عن مكانِهم في الخرائط الجديدة. وحدَها "المقاومة" أعلنت؛ بالفعل لا بالقول أنّها تملك "الفيتو"، وأن لا أمن بلا عدل، فكان ما كان في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، على الرّغم من تضحياتِها الكبيرة اعتراضًا على غطرسَة الخرائط الإسرائيليّة، وعلى الإذعان العربي المُفترض للخطط الصّهيونيّة "المُعلنَة".

ما يتركه الحاكم المستبدّ وراءه من أزمات وألغام ربّما كان هو جوهر السّؤال العربيّ المفتوح

في منطقتنا العربيّة، المبتلاة بمحتلّيها ومستبدّيها المُتصارعين على السّلطة، قد تختلف المشاهد والأوجاع والتّفاصيل، ولكن مأساة الشّعوب واحدة، إذ لولا مجازر "جيش الاحتلال" في غزّة لكان السّودان (العربي) صاحب المأساة الإنسانيّة الأفْدَح، بعد أن أخذه صراع الجنرالات على السّلطة إلى شفا مجاعة، ربما كانت الأسوَأ في التّاريخ الحديث، كما تقول لنا التّقارير الدّوليّة. لاحظوا نحن هنا نتحدّث عن مجاعةٍ في بلدٍ كنّا نتعلّم في مدارسنا الابتدائيّة أنّه "سلّة غذاء العرب". يا لها من مفارقة كاشفة.

كيف حدث ذلك بعد ثورة أطاحت بالبشير الذي حكم بالحديد والنار (والميليشيات) ثلاثين عامًا كاملة؟ الإجابة البسيطة عرفناها في غير قطر عربي: "ذهب الحاكم المستبدّ، ولكن لم يذهب نظامه ولا ما خلّفه وراءه من ميراث وأطماع... ومشكلات".

ما يتركه الحاكم المستبدّ وراءه من أزمات (وألغام)، ربّما كان هو جوهر السّؤال العربيّ (المفتوح) بين عامَيْن: إلى أين يذهب السّوريّون بثورتِهم... وفرحتِهم... وربيعِهم؟

لا شيء أسوأ مما عاشه السّوريّون قمعًا واستبدادًا زمن الأسدَيْن إلا أنّ المجهول لا يقلّ أثرًا عن المَعلوم

سوريا مطارَدة اليوم بتاريخِها المُنْهك تَقسيمًا وتَأطيرًا، وبأطماعِ جيران أو مُستعمرين (وإن تغيّرت، أو تلوّنت أقنعتُهم)، ناهيك عن صهاينةٍ هَادَنَتْهُم "الأنظمة"، فيخشون "التّنظيمات"، والإيديولوجيّات الثّوريّة، لا تلك الزّائفة "المخدِرة" في لافتات وشعارات ستينيّات "البعث" وأشباهه.

صحيحٌ أنْ لا شيء أسوأ مما عاشه السّوريّون قمعًا واستبدادًا زمن الأسدَيْن. إلّا أنّه على الرّغم من التّفاؤل، وليس أمامهم، وأمامنا سوى التّفاؤل والإمساك بالمُكتسبات، وحكمَة التّعلم من خبرات السّابقين (الفاشِلة)، إلا أنّ المجهول لا يقلّ أثرًا عن المَعلوم. فالمُتآمرون كُثُر، والمصالح مُتضاربة، والأصابع كثيرة فوق الطّاولة وتحتها. وما رأيناه من إجهاضٍ لكل ثورات الشّعوب العربيّة أيام حاولوا أن يكون "ربيعهم" يُنْذِر بالكثير من الخطر.

وبعد،

فإذا كان العام الذي ينقضي بعد سُوَيْعَات عامًا كاشفًا كسابقِه، فإنّ العام الذي ندخل إليه هو عام الغُموض بامتياز. فالأسئلة مُتزاحمة، لم يتّسع المجال هنا إلّا لبعضِها، وفي كلّ الأحوال لا إجابات "حاسِمة" هناك.

ماذا سيفعل دونالد ترامب بغزّة التي توعّدها بالجَحيم؟ أو بإسرائيل التي يرى أنّ مساحتَها أصغر مما يجِب؟ ربّما كان هذا هو السّؤال الأكثر دراماتيكيّة كصاحبِه.

أو ماذا سيفعل نتنياهو الذي وقف غير عابئٍ بكونِه مطلوبًا من العَدالة الدّوليّة؛ كمجرمِ حرب، بل مُنتشيًا باغتياله سماعيل هنيّة ويحيى السّنوار وحسن نصر الله (إلى جانب ما يزيد عن 45 ألفًا معظمهم من النّساء والأطفال) ليقول نصًّا إنّ "إسرائيل ترسُم الخرائطَ الجَديدة لمنطقتِنا تلك"؟.

وهل سينسى العرب شروط مُبادرة الملك عبد الله "للسلام العادل"، ويذهبون مع ترامب إلى استكمال "الصفقة"، مع وعدٍ لا قيمة له "بمسارٍ" يعلمون جيّدًا أنّه لا يُفضي إلى شيء؟

هو عام "الغطرسة الإسرائيليّة" أو عام "الوَهَنِ العربيّ" لا فارق فالعبارتان مُتلازمتان

ربّما لا نعرف (كشعوب) ما يخبِّئه لنا هذا أو ذاك في عامٍ مقبلٍ، ولكنّنا نعرف قَطْعًا أنّ العام الذي انقضى، كان عام العجرفة الإسرائيليّة بامتياز. عامٌ لم يتردّد فيه الإسرائيليّون (الرّسميّون) في اتهام سكرتير عام الأمم المتحدة بـ"مُعاداة السّاميّة"، وبالطّبع اتّهام قُضاة المحكمتَيْن الدوليتَيْن، وكلّ مسؤولي المؤسّسات الأمميّة الإنسانيّة بالتّهمة (الجَاهزة) عينها. ليس ذلك فقط، بل، وفي إشارةٍ لا تُخطِئها غيرَ أعيُن الذين لا يريدون رؤية العدو على حقيقتِه، وقبل أيامٍ فقط من نهاية عام الغطرسة الإسرائيليّة ذاك، وفي زيارة استعراضيّة، ذهب وزير الحرب الإسرائيلي بنفسه إلى محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، الذي احتلّته القوّات الإسرائيليّة مُخالِفةً مقرّرات اتّفاقيّة السّلام مع مصر ليقول بزيارته المُتبجّحة: "إنّنَا وحدنا أصحاب القرار، ولا يقفُ أمام قراراتِنا جيشٌ ولا معاهدات سلام، حتّى ولو كانت المعاهدة الأولى مع العرب، بكلّ ما يحمله كونها "الأولى" من معانٍ ودلالات". أراد الوزير الإسرائيلي الذي اختاره نتنياهو إقصاءً لغريمه أن يكرّر التّصريح المُتعجْرِف لرئيس وزراء (العدو) يوم لم يتردّد في أن يقول علنًا: "يدنا طويلة، وتصل إلى كلّ ركن في الشّرق الأوسط وعلى الجميع أن يسمع ذلك".

هو حقًّا عام "الغطرسة الإسرائيليّة" بامتياز. أو قُلّ، إن شئت: هو عام "الوَهَنِ العربيّ". لا فارق، فالعبارتان مُتلازمتان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن