تقدير موقف

"الهلال" الإيراني و"البدر" التّركي.. و"نجمة داوود"!

لا نبالغُ إذا ما قُلْنَا أنّ الثّامن من ديسمبر/كانون الأوّل 2024 السّوري، ربّما يفوق بأهميّته الاستراتيجيّة زلزال التّاسع من أبريل/نيسان 2003 العِراقي الذي دَشَّنَ دخول المنطقة حقبَةَ التّخَادُم الأميركي - الإيراني، ما شكّل صدمةً مثيرةً لقدرة الإسلام السّياسي الإيراني على المَبيت في سريرٍ واحدٍ مع "الشّيطان الأكبر"!.

معلومٌ أنّ إيران أجَّجَت كلّ عوامل الحِقد للتّشفّي من عدوّها التّاريخي صدّام حسين، وتاليًا من "حزب البعث"، الّذي تمّ حلّه بقرار من "الحاكِم الأميركي" بول بريمر، واجتثاثه بسكاكينِ الميليشيات الطّائفيّة، لينطلق تجريم "البعث" واستئصاله ليس بحلّ الجيش العراقي فحسب، وإنّما كل مؤسّسات العراق التي الْتَهَمَتْهَا النّيران باستثناء وزارة النّفط التي سارع الأميركيّون لحمايتِها.

ما فعلته الدبابات الأميركيّة في غزو العراق فعلته الصواريخ الإسرائيليّة في تدمير مقدّرات الجيش السّوري

وبدا أنّ المُراد باجتثاثِ "البعث" هو ضرْب الهّويّة العربيّة للعراق وجعله وفق مقتضيات التّخادم حديقةً خلفيّة وأماميّة لإيران. بهذا، فقد شكّل التّاسع من أبريل/نيسان منصّةَ تغوّل إيران عبر "الإسلام السّياسي الشّيعي" في البلاد والعواصم العربيّة، ما دفعَ المَلِك الأردني للحديث عن "الهِلال الشّيعي" ومخاطره.

ومقابل التّاسع من أبريل/نيسان العراقي، انطلق الثّامن من ديسمبر/كانون الأوّل السّوري. وعلى الرّغم من أنّ "المُخْرِجَ الدّولي والإقليمي" قد تنبّه لبعض أخطاء التّاسع من أبريل/نيسان العراقي، كشف المشهد السّوري أنّ "فصائل الإسلام السّياسي والجهادي السّني" بقيادة ودعم تركيا، شكّلت الواجهة الميْدانيّة لإسقاط نظام بشّار الأسد.

وكما دخلت الميليشيات الطّائفيّة من إيران وكردستان على متن الدّبّابات الأميركيّة إلى بغداد، فقد دخلت فصائل "رَدْعِ العُدوان" السّورية بخلفيّتِها التّركيّة إلى إدلب ومن ثمّ حلب، وبشكلٍ دراماتيكي إلى حماه وحمص وانتهاءً بدمشق، بما يُشْبِهُ ثورات "تَسليم المِفتاح". وما فعلته الدّبّابات الأميركيّة في غزوِ العراق، فعلته الطّائرات والصّواريخ الإسرائيليّة في تدمير مقدّرات ومواقع الجيش السّوري في عمليّةٍ مُتزامِنَةٍ لبضعةِ أيّام، أطلقَ شرارتَها بنيامين نتنياهو تزامُنًا مع وقف إطلاق النّار في لبنان، ما جعل سوريا دولةً منزوعةَ السّلاح، وسمح لجيش الاحتلال في احتلال قمّة جبل الشّيخ والتّغوّل في محافظات الجولان والقنيطرة ودرعا، وباتت دمشق على مرمى مدفعيّة الاحتلال وليس طائراته فقط.

في "9 أبريل العراقي" كانت إيران الوكيل الإقليمي وفي "8 ديسمبر السوري" لعبت تركيا دور الوكيل الإقليمي

وقد بدا التّخادم التّركي - الإسرائيلي - الأميركي جليًّا في المشهد السّوري، وعبّر عن ذلك مسارعة الأميركيّين لتجميل صورة حُكّام دمشق الجُدُد ممّن كانوا مُدْرَجين على "لوائح الإرهاب"، وتبلّغ أحمد الشّرع من باربرا ليف بإلغاء قرار تعقّبه الذي كان ساريًا لقاء ملايين الدّولارات المُخصّصة لِمَنْ يُدلي بمعلوماتٍ عنه.

في 9 أبريل/نيسان العراقي، كان الأميركي هو المُخَطِّط والمُخرج والمُنَفِّذ، وكانت إيران الوكيل الإقليمي لما بعد إسقاط نظام صدّام حسين. وفي 8 ديسمبر/كانون الأوّل السوري لعبت تركيا دور الوكيل الإقليمي والدّاعم اللوجستي والعمليّاتي لخطة إسقاط نظام الأسد. وفيما غاب تجْريم "البعث" السّوري عن ألْسِنَة الأميركيّين والإسرائيليّين، تفرّدت تركيا بلسان رئيسِها ووزير خارجيّتها بتجْريم "البعث" وترذيله، ما يعني أنّ مشاريعَ القِوى الإقليميّة المُتغوّلة في البلاد العربيّة تمتلكُ خطّةً استراتيجيّةً لتقويض عناصر العُروبَة في مهدِها، واستبدالِها بقناطرَ دينيّة، كالإسلام السّياسي، المأخوذ إيرانيًّا في تكريس نظام "ولاية الفقيه"، وتركيًّا في استعادة أمْجاد "الخِلافة العُثمانيّة".

والمُتَتَبِّعُ لحركات الإسلام السّياسي في ركوبِها موْجات الرّبيع العربي، يستدركُ ببساطةٍ مُتناهيَة كيف أنّ هذه الحركات بقيادة تركيا "الأردوغانيّة النّاتوِيّة"، كانت عبارةً عن جيش الـ"ناتو" البرّي الذي يُقاتِل تحت غطاء الأسَاطيل والبَوارج النّاتويّة في ليبيا لإسقاط نظام مُعمّر القذّافي، لينتهي بإغراق ليبيا في بحرٍ من الدّماء، وجعلِها جزرًا ومربّعاتٍ أمْنِيَّةٍ لكتائب وفصائل ميليشياويّة تتصارع فيما بينها، ولم تنجحْ إلّا في تحويل ليبيا إلى بلدٍ بحكوماتٍ مُنْقَسِمَةٍ تتنازعُها شرعيّات محلّيّة ودوليّة، وتتغوّل فيها الفيالق النّاتويّة والرّوسيّة. وتجلّى اهتمام أردوغان في استغلال الموْقف لفرض اتفاقيّات ومعاهدات على حكومة طرابلس من بينها التّرسيم البحري شرقي المُتوسّط مع ليبيا التي تأكلها الهشاشة الأمنيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة.

وفي سوريا، تجهد تركيا لاغتنام الفرصة على غرار ليبيا، وتصدّرت أهدافها المُطالبة بمفاوضاتٍ فوريّة لترسيم حدودِها البحريّة مع سوريا. وعلى الرّغم من أنّ حكّام دمشق الجُدُد من مؤيّدي تركيا وأتباعِها، لكنّها لم تمنحْهُم الوقتَ الكافي لترسيخ بِنياهم في سوريا الجديدة وسارَعت لإجراء المقاصّة البَحريّة، توازيًا مع تخييرِها لمنظّمة "قسد" وضِمنًا الأكراد بين إلقائِهم السّلاح أو "دفنهِم" شرقي الفُرات. وفي جنوب سوريا، يتغوّل الجيش الاسرائيلي، كما تتغوّل دبّاباته في وادي الحجير في جنوب لبنان، وكأنّ اسرائيل تنوي استكمال الحرب للإجهاز النّهائي على "حزب الله".

الاستراتيجيّة فقدت معناها مع إيران جرّاء هزائمِها المُتوالية لكنّها لم تفقد معناها لدى إسرائيل

وتوازيًا مع مشهد 8 ديسمبر/كانون الأوّل، تتخبّط إيران في مواقِفِها، فهي وإنْ استطاعت أنْ تبلَعَ "تراجُعَ حزب الله" الذي بات أشبه بجزيرةٍ معزولةٍ كحال "حماس" في غزّة، لكنّها لم تستطِع على الرّغم من حالة الإنكار، ابتلاع هزيمتِها في سوريا. وهنا نفهم مأزق المواقف التي يُطلقها خامنئي ووزير خارجيّته حيال الوضع غير المستقرّ في سوريا. وتزامنت مواقفُ الرّجلَيْن مع تطوّراتٍ أمنيّة بمناخاتٍ طائفيّة خطيرة في سوريا، وهي المناخات التي تُجيد إيران اللّعب على أوتارِها المذهبيّة بهدف خلق الوقائِع التي تُعيد شيئًا من توازنِها النّفسي لا الاستراتيجي. فالاستراتيجيّة فقدت معناها مع إيران جرّاء هزائمِها المُتوالية، لكنّها لم تفقد معناها لدى إسرائيل التي يُقيم جيشُها المُفاضلة بين شنّ الحرب على إيران أم "الحوثيّين" أولًا!

إنّها الحرب التي إذا نجحت فيها إسرائيل، فستكون المنطقة أمام "نجمة داوود"، وليس "هلالًا إيرانيًّا" أو "بدرًا تركيًّا"!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن