في مشهد غير مسبوق منذ أكثر من ربع قرن، عقد وزراء رفيعو المستوى من سوريا وإسرائيل لقاء مباشرا في العاصمة الفرنسية باريس، برعاية أمريكية، وسط ظروف إقليمية شديدة التعقيد. الاجتماع الذي عقد يوم الخميس 24 تموز/يوليو الجاري واستمر لأربع ساعات، تم برعاية المبعوث الأمريكي الخاص توم براك، وضم وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، ووزير الخارجية السوري في الحكومة الانتقالية أسعد الشيباني.
جاء اللقاء في أعقاب أسبوع دموي شهدته محافظة السويداء جنوب سوريا، إثر اندلاع اشتباكات بين مقاتلين دروز وقبائل بدوية، مدعومة بقوات حكومية. أسفرت المواجهات عن مقتل المئات، ودفع ذلك إسرائيل للتدخل في الشأن السوري وشنّ غارات جوية على مواقع حكومية في دمشق والسويداء، مبررة تدخلها بـ"حماية الأقلية الدرزية". وسط هذا التصعيد، أعلن براك عبر منصة أكس:"التقيت هذا المساء بالسوريين والإسرائيليين في باريس. كان هدفنا هو الحوار وخفض التصعيد، وقد أنجزنا ذلك بدقة. وجدد جميع الأطراف التزامهم بمواصلة هذه الجهود".
يمثل هذا اللقاء أول اتصال وزاري علني ومباشر بين سوريا وإسرائيل منذ محادثات شيبردزتاون في 16 ديسمبر 1999، التي رعتها إدارة كلينتون بين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إيهود باراك ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع. واليوم، بعد مرور ربع قرن، تعود سوريا إلى طاولة التفاوض ولكن هذه المرة تحت ظل حكومة انتقالية جديدة يرأسها أحمد الشرع، بعد الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر 2024. وأكد بيان مشترك صادر عن فرنسا والولايات المتحدة وسوريا أن «الاجتماع جاء في لحظة حرجة»، وشدد على ضرورة الإسراع في إنجاح الانتقال السياسي، وحماية استقرار سوريا ووحدة أراضيها.. وأفاد مسؤول إسرائيلي رفيع لموقع "أكسيوس" الأمريكي أن أحد أهداف هذا الاجتماع، إلى جانب التفاهمات الأمنية حول جنوب سوريا، هو استكشاف إمكانية انخراط سوري بشكل أوسع في مسار دبلوماسي مع إسرائيل.
وقد سبقت هذا اللقاء عدة اجتماعات سرّية عُقدت في باكو، عاصمة أذربيجان، جمعت بين الشيباني ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، بتنسيق غير مباشر من الاستخبارات التركية، حسب المصدر نفسه. في هذا السياق، تُشير التقارير إلى أن المبعوث الأمريكي براك لعب دورا حاسما في إدخال ديرمر إلى المشهد، بوصفه المسؤول عن التواصل المباشر مع البيت الأبيض، ومُكلفا بصياغة حوافز أمريكية لتشجيع دمشق على خطوات نحو تطبيع تدريجي، في المقابل، فإن الشارع السوري لا يزال رافضا لأي تقارب مع إسرائيل، خاصة في ظل استمرار الاحتلال الاسرائيلي للجولان، وفي ظل غياب موقف وطني جامع يُشّرعن هذا النوع من التفاهمات.
وقد رفض معظم زعماء الدروز في سوريا التدخل الإسرائيلي في السويداء، معتبرين أنه يخدم أجندات خارجية ولا يحمي المجتمع المحلي، من جهة أخرى، تُواجه الحكومة السورية الانتقالية، تحديات كبرى على مستوى الشرعية الداخلية والسيطرة المركزية، ما يجعل أي خطوة خارجية من هذا النوع محفوفة بالمخاطر السياسية. وتجدر الاشارة إلى أن لقاء باريس على الرغم مما يحمله من إشارات إيجابية، وفرص واعدة، فإن مسار التطبيع بين سوريا وإسرائيل مازال يواجه مجموعة من التحديات البنيوية المعقدة، التي تجعل من أي تقدم ملموس أمرا محفوفا بالمخاطر.
أولى هذه العقبات هي الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان، الذي يشكل جرحا سياديا مفتوحا في الوعي الوطني السوري، ولا يمكن تجاوزه بسهولة في أي مفاوضات سياسية. فملف الجولان ليس فقط قضية قانونية، بل رمز للمقاومة والسيادة، وأي تقارب مع إسرائيل دون حل هذا الملف سيُنظر إليه داخليا كتنازل مرفوض. ثانيا، هناك ضعف مؤسسات الدولة السورية الجديدة، بعد سنوات من الحرب والانقسام، وأن الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، ما تزال تواجه تحديات داخلية على مستوى الإدارة والشرعية والقدرة على فرض القرار الموحد، ما يجعل تنفيذ أي اتفاق خارجي أمرا معقدا على الأرض. ثالثا، تبرز المعارضة الشعبية الواسعة، لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، سواء داخل سوريا أو في أوساط المعارضة التقليدية في الشتات. هذا الرفض مدفوع بتاريخ طويل من الصراع، وسياسات الاحتلال، والتدخلات الإسرائيلية المتكررة، خصوصا في الجنوب السوري.
أما رابع العقبات، فهي الديناميات الإقليمية. فوجود أطراف إقليمية فاعلة مثل إيران وروسيا وحزب الله في لبنان، التي ترى في انفتاح دمشق على تل أبيب تهديدا مباشرا لنفوذها في سوريا، يجعل المسار محفوفا بتوترات محتملة، قد تُفجّر الميدان من جديد، إذا ما شعرت هذه القوى بأنها تُستبعد من ترتيبات ما بعد الأسد. أخيرا، فإن الهشاشة الأمنية في الجنوب السوري، والتداخل بين القوات المحلية والميليشيات الأجنبية، يجعل من أي اتفاق أمني صعب التطبيق دون وجود ضامن إقليمي ودولي قوي، وهو ما لم يُحسم حتى الآن.
ورغم أن لقاء باريس جرى بين السوريين والإسرائيليين برعاية أمريكية وغربية، إلا أن ثلاث قوى إقليمية وازنة تراقب المشهد عن كثب وتشعر بالقلق من تداعياته على موازين النفوذ داخل سوريا، تركيا، إيران، وروسيا. فتركيا، التي كانت لسنوات داعمة للمعارضة السورية، تجد نفسها اليوم في موقع الشريك السياسي والعسكري للحكومة الانتقالية في دمشق، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد. وقد أشارت تقارير إلى أن أنقرة كانت جزءا من المحادثات الأولية، وشاركت في تسهيل اللقاءات السرية بين الطرفين، خاصة في باكو.. ومع ذلك، عبّرت أنقرة مؤخرا عن توتر متزايد حيال الضربات الإسرائيلية في الجنوب السوري، واعتبر وزير الخارجية هاكان فيدان، أن إسرائيل "تسعى إلى تقسيم سوريا تحت ذريعة حماية الدروز". أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فاتهم تل أبيب صراحة بأنها تستغل الوضع الأمني لتوسيع نفوذها داخل سوريا.
أما إيران، الحليف القديم لنظام الأسد، فتعتبر أي تقارب سوري مع إسرائيل خيانة سياسية وتهديدا مباشرا لنفوذها الاستراتيجي في المنطقة. ومنذ سقوط الأسد، عملت طهران على إعادة تموضع الميليشيات المقربة من طهران جنوب سوريا، ورفضت أي ترتيبات أمنية لا تأخذ مصالحها في الحسبان، لذلك فإن التطبيع مع إسرائيل، من وجهة نظرها، يُهدد مشروع "الهلال الشيعي"، ويُقصيها من مستقبل سوريا السياسي والعسكري. أما روسيا، التي تقف في موقع أكثر براغماتية، فهي ترى في التحركات الأمريكية والإسرائيلية في سوريا تقليصا لدورها كضامن وموازن داخل الملف السوري، ورغم أنها لم تعارض علنا اللقاء السوري-الإسرائيلي، إلا أن موسكو تخشى أن تتحول التسوية إلى تفاهمات ثنائية خارج مسار أستانا، ما يُضعف نفوذها ويعيد صياغة الملف السوري بمعزل عنها.
في المحصلة، فإن تركيا وإيران وروسيا، وإن لم تكن على طاولة باريس، إلا أنها تشكّل مراكز ضغط حقيقية على أي مسار للتطبيع، وقد تعمل، بشكل مباشر أو غير مباشر، على تعطيله أو توجيهه بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة. من هنا، فإن التطبيع السوري /الإسرائيلي- إذا حصل – لن يكون مجرد إعلان سياسي، أو بيان مشترك، بل مسارا طويلا ومعقدا، يتطلب تفاهمات داخلية، وصفقة إقليمية، وضمانات دولية، وكل ذلك لم يتبلور بعد. لقاء باريس لا يُعد تطبيعا بالمعنى السياسي، لكنه بلا شك كسرٌ لجدار الصمت بين دمشق وتل أبيب. وهو يعكس حقيقة مفادها أن النظام السوري الجديد، ورغم كل العوائق، يُحاول إعادة تموضعه إقليميا بدافع الحاجة الأمنية، والدعم الأمريكي، والرغبة في انتزاع الاعتراف السياسي الاقليمي والدولي.
أما إسرائيل، فترى في هذا الانفتاح فرصة لضبط الحدود الشمالية، وتحييد الجنوب السوري عن النفوذ الإيراني، وربما فرض واقع سياسي جديد يُمهّد لحلول إقليمية مستقبلية. الرسالة واضحة: الشرق الأوسط ما بعد 2024 ليس هو نفسه قبلها، وسوريا ما بعد الأسد تخوض اختبارا صعبا بين الواقعية السياسية، وضغوط الإرث الوطني، وحتى ذلك الحين، تبقى باريس محطة اختبار دقيقة، لا بداية جديدة بالضرورة، لكنها بالتأكيد ليست مجرد تفصيل عابر.
(القدس العربي)