اليوْم وبعد عشر سنوات على الحرب، بات الوضعُ مختلفًا تمامًا، حيث تضاءل دور المُنظّمات او كاد يَنْعَدِم، وعَمِلَت أطراف الصّراع على إيجاد تشكيلاتٍ تدور في فلكِها وتدْعمُ مواقفَها في المواجهَة.
إبّان حكْم الرّئيس الرّاحل علي عبد الله صالح، وعلى الرّغم من القُيودِ المَحدودَة التي فُرِضَت على العمل المدني، وُجِدَت أكثر من ثمانية آلاف منظّمة كانت تعمل وتنْشط في مختلف المَجالات السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة وتتناول حقوق الإنسان وقضايا المرأة والفساد وتنميَة الدّيموقراطيّة، وقد زاد زخم هذا العمل في الفترة التي أعقبَت مغادرته السّلطة عام 2011.
ووفْق البنك الدّولي فإنّه وعند اجتياح الحوثيّين صنعاء والاستيلاء على السّلطة، كانت البلادُ تشْهد نموًّا مَلْحوظًا في عدد منظّمات المُجتمع المَدني، مع وجود 8.300 منظّمة، لكنّ هذا العدد تَضاعفَ من خلال استِحداث منظّماتٍ بديلة خلال أربع سنوات من الحرب حيث وصل عددها في نهاية العام 2018 إلى 13.200 منظّمة.
حاليًّا، تواجِه مُنظّماتُ المُجتمعِ المَدني جملةً من القيود سواء في الحُصول على تراخيص العَمل أو تجديدِها في المَناطق الخاضعة لسَيطرة الحكومة الشّرعيّة، أو في مناطق الحوثيّين الذين أرغموا غالبيّة المُنظّمات على إغلاق أبوابِها. كما اسْتَنْسَخُوا مُنظّماتٍ تتبعهُم احتكرَت العمل الإغاثي كشُركاء محلّيين للمنظّمات الأمميّة والدّوليّة. وقد طالت تِلك الإجراءات الأحزاب السّياسيّة التي سُمِحَ لها بالبقاء في مقابل تبنّي الخطّ السّياسي عينه للحوثيّين وإلّا أُغْلِقَت مقرّاتها.
وفي كِلا المنطقتَيْن تحوّل عمل مُنظّمات المُجتمع المَدني إلى صدًى لتوجُّهات الجَماعة التي تمسكُ بالحُكْم، كما زادَت القبْضة المُخابراتيّة على أنشطتِها، وأصبحت عُرضةً للفَحْصِ الأمني قبل تنفيذ أي نشاط، وباتت خَلفيّة القَائمين عليْها السّياسيّة وانتماؤهم الاجتماعي أو الجِهَوِي معيارًا لشكْل تعامل السّلطات معها.
ومن بيْن القيود التي واجهتها منظّمات المُجتمع المَدني إلزامُها بتسجيلِ أنشطتِها والحصول على الموافقةِ المُسبقة على أيْ نشاط، والتّدقيق في حساباتِها البنكيّة ومصروفاتِها، وإجبار الكثير منها على تعيين موظّفين من أتباع الجِهة المُسيْطرة في إداراتِها، وهو ما مَكَّنَ مُنتسبوهم من الاستحواذ على الوظائِف في حين فقد الآلاف من النُشطاء إناثًا وذكورًا مصادر دخلهم.
ووفق دراسَة ميدانيّة لفضاءِ المُجتمع المَدني في البِلاد نُشِرَت عام 2023، فإنّ ممارساتِ القَمْع المُرتكبَة ضدّ المُجتمع المدني أدّت إلى تَدهوُر أداء 65.7 في المئة من المنظّمات، حيث أُجبر جزء كبير منها على التّوقّف بشكلٍ موقت أو كامل عن العمل، وتقليص أنْشِطة مَيْدانيّة لـ21.4 في المئة من هذه المنظّمات.
التقرير الذي يستعرِض التّطوّر التّاريخيّ للعمل الأهليّ في اليمن، سواء قبل الحرب أو في أثنائِها للوقوف على تأثيرِها، يرى أنّ أبرز التّحدّيات التي واجهت العمل الأهليّ في المرحلة الحاليّة هو الانقسام المَذْهبي والجِهَوِي، ويؤكّد أنّ أطراف الحرب استغلّت المُجتمع المَدني لتنفيذِ أهدافِها وسياساتِها.
كما يتناول التقرير دَوْرَ الأطراف الخارجيّة في تفاعُلِها مع البيئة الداخليّة في اليمن، بما فيها المُجتمع المَدني، من خلال دعمِها لأطراف الحرب (الحرب بالوكالة) لتحقيق مصالحِها وأجندتِها، ويؤكّد أنّ كلّ تلك التّفاعلات أثّرت في طبيعة العمل الأهليّ في البلاد.
وتُبَيّن الدّراسة أنه ومن خلال علاقة الخارج بالسّياسة الدّاخليّة، وفي إطار فرض هذه الأطراف سلطتَها على كل ما يقع تحت مناطقِ نفوذِها، فإنّها تسعى إمّا إلى فرضِ أجندتِها على المجتمع المدني أو تقييد حرّيته أو الاستفادة من مصادر تمويلِه، حيث يعمل عدد من وكالات الأمم المتّحدة مع منظّمات المجتمع المدني في البلاد.
على سبيل المِثال، ذكر صندوق الأمم المتّحدة للسكّان أنّ 75٪ من برامجِه في اليمن تتمّ من خلال منظّمات المجتمع المدني المحليّة، كما يتمّ تنفيذ ما يقرب من 25٪ من برامج "اليونيسف" بالشّراكة مع هذه المنظّمات، وهذا يكشف أسباب قيام الجماعات الحاكمة باستنساخ منظّمات بديلة وفرض قيودٍ مشدّدة على أي منظّمة لا تتوافَق وتوجّهات هذا الطّرف او ذاك وخصوصًا في مناطق سيطرة الحوثيّين.
وفي غياب أي بيانات حديثة عن وضع منظّمات المجتمع المدني حاليًّا، فإنّ الأرقام الّتي جُمِعَتْ قبل ثمانية أعوام، تُظْهِرُ حجمَ الأضرار والخسائر التي أصابت المجتمع المدني بعد عامَيْن من الصّراع حيث تعرّض 20٪ منها للنّهب و17٪ للإغلاق و5٪ جُمّدَت أرصدتها، و33٪ واجهت صعوبةً في تنفيذ مشاريعِها، كما أوقف نشاط 19٪ لأسبابٍ مختلفة.
(خاص "عروبة 22")