غيْر أنّه وخارج خط الخَسائر المُشتركة، فإنّ إيران أخذت حصّةً إضافيّة من خسائر التّحوّل السّوري، لأنّه ضَرَبَ في عُمْق أهداف إيران، والتي تنتظمُ في استراتيجيّة عميقة، اشتغلت عليها إيران في سوريا وحَوْلِها منذ استيلاء المَلالي بزعامة آية الله الخميني على السّلطة عام 1979، وجوهرُها التّمدّد الإقليمي في المَشْرِق العربي، وكانت فكرة "الهلال الشّيعي" أحد تعبيراتِه، وتشكّل سوريا نقطة الوسَط فيه.
كان انفتاح نظام الأسد على سلطة المَلالي بوّابة تسلّل الأخيرة إلى سوريا، التي كانت تعاني في حينه من ضيقٍ سياسي اقتصادي، سعَت إيران إلى تخفيفه عبْر فتحٍ في العلاقات وتقديم المُساعدات للنظام، الذي ردّ عليها بالوقوف إلى جانب طهران في حربِها على العراق 1980-1988 خلافًا لموقف الأغلبيّة العربيّة. وخلال الفترة عينها، عزّزت إيران تدخّلَها لإنشاء أدواتٍ وتنظيماتٍ سياسيّة ومسلّحة في بلدان المشرِق العربي انطلاقًا من لبنان حيث تأسَّس "حزب الله" تحت رعاية ومساعدة نظام الأسد، وصارت تجربة هذا الحزب في لبنان مِثالًا وهاديًا لإيران في إنشاء تجارب لاحقة بينها الميليشيات العراقيّة، والميليشيات السّورية، وقد اختفت الأخيرة بعد سقوط نظام بشار.
لم يكن محْض صُدفة أن يكرّرَ مسؤولون ونواب إيرانيّون علنًا وَصْفَ سوريا بأنّها "ولاية إيرانية"
أعطت ثورة السّوريّين على نظام الأسد عام 2011 إيران فرصةً لسيطرة مُباشرة وواسعة على سوريا، فدفعت بميليشياتها من بلدانٍ مُختلفة، ثم أرسلت "خبراءها" العسكريّين والأمنيّين، وقوّاتٍ من الحَرَسِ الثّوري، وعندما عَجِزَت عن حماية النّظام من السّقوط، سعت لتدخّل روسي فعّال عام 2015، قَلَبَ موازين القوى وأعطى للنّظام فرصة الاستمرار بالمعونة الإيرانيّة - الرّوسيّة، والتي استغلّها الطّرفان لتحقيق مكاسب وامتيازات، وقد تجاوزَت إيران وميليشياتها هذا المستوى الذي كانت حركتُه الأساسيّة تتّصل بالمستوى الرّسمي من مؤسّسات ومسؤولين، إلى ما هو أعمق في صلاتِه وعلاقاتِه مع المُجتمع السّوري مثل إجراء تغييراتٍ ديموغرافيّة استراتيجيّة كما حدث في محيطِ دمشق وريفِها، وعلى الخطّ الواصل منها إلى الحدود السّوريّة - العراقيّة، ووسّعت أنشطة التّشييع الفارسي، وشكّلت ميليشيات مسلّحة وأخرى عقائديّة وثقافيّة لـ"انتشار فارسي" يَشْمَلُ اللّغة والتّقاليد وغيرهما، وبصورةٍ عامّة فإنّ ما قامت به في هذا الجانب، كرّس سياسة "أَيْرَنَة سوريا"، ولم يكن محْض صُدفة أن يكرّرَ مسؤولون ونواب إيرانيّون علنًا وَصْفَ سوريا بأنّها "ولاية إيرانية"!.
إنّ ما حقّقته إيران في سوريا كان كبيرًا من وجهة نظر إيران ومرجعياتِها الدّينيّة والأمنيّة العسكريّة والحكوميّة، الأمر الذي يفسّر قبول إيران تقديم فاتورة مادّيّة وسياسيّة وعسكريّة كبيرة، كان بين معطياتِها مساعدة نظام الأسد بمبلغ قيل إنّه تجاوز 50 مليار دولار، وبسبب وجودِها وممارساتِها في سوريا واجهت اعتراضاتٍ ومخاوف عربيّة، وأخرى إقليميّة ودوليّة بخاصّة من جانب الولايات المتّحدة وإسرائيل، وعبّرت الاعتراضات عن نفسها بِصُوَرٍ مُتعدّدة، فكانت اعتراضات سياسيّة وأخرى اقتصاديّة، وأهمّها الاعتراضات العسكريّة، ومنها هجمات إسرائيل والولايات المتّحدة ضد إيران وميليشياتها في سوريا وجوارها قُتِلَ فيها المئات من ضبّاط وقادة وكوادر، عجِزَت إيران وميليشياتها عن الردّ عليها بصورة مُناسبة، وقد تُوّجَت فاتورة الوجود والمسار الإيراني بخروجٍ سريع وغامض لإيران وميليشياتها من سوريا، ترافقَ مع سقوطِ نظام بشّار الأسد في كانون الثاني 2024.
خسارة إيران الكبيرة فرضت سلوكيّات عبّرت عنها الاندفاعة الهُجوميّة الشّاملة على سوريا
وإذ سَعَت إيران لمحاولة استيعاب ما حصل في سوريا على نحوِ ما فعلت مع الضّربات الّتي تَلَقَّتْهَا أذرُعُها في المنطقة، وخصوصًا "حماس" و"حزب الله" وغيرهما، لكنّ خسارتَها الكبيرة فرضت سلوكيّات أخرى، عبّرت عنها الاندفاعة الهُجوميّة الشّاملة على سوريا، والتي تشارَكَت فيها المرجعيّات جميعها، بدءًا من المرْشد إلى رئاسة الجمهوريّة ووزارة الخارجيّة والحرس الثّوري والبرلمان وصولًا إلى مراكز الدّراسات، وتفنّن المُشارِكون في الإشارات إلى تدهوُر الأوضاع في سوريا، وأنّها تسير إلى مواجهات نحو حربٍ أهليّة، وقدّموا عروض مساعدات إيرانيّة، مقرونةً بتهديداتٍ إذا لم يذهب العهْد السّوري الجديد وفق رؤيَة إيران للصّراعات الجاريَة في المنطقة ولا سيما الصّراع العربي - الإسرائيلي.
إيران شاركت وميليشياتها في المذبحة والتّدمير في سوريا وأحْنَت رأسَها أمام الصّلف الإسرائيلي إلى أقصى درجات الذّلّ
ولا تكشف الإشارات الإيرانية عن انفصال أصحابِها عن الواقع الذي صارت إليه سوريا وعموم المنطقة، بل تكشف أيضًا جنونًا يسعى إلى إيهام العالم أنّ إيران كانت تعزّز فُرص الحياة والتقدّم في سوريا، وتصون استقلال البلاد ووِحدة أراضيها، وأنّها لم تُناصر حاكمًا متوحّشًا دمّر سوريا وأصاب سكّانها قتلًا وجرحًا واعتقالًا وتشريدًا، وأنّها شاركت وميليشياتها في المَذْبَحَة والتّدمير بدورٍ رئيسي، وعجزت عن الرّد على اعتداءات إسرائيل، بل هي أحْنَت رأسَها أمام الصّلف الإسرائيلي إلى أقصى درجات الذّلّ.
(خاص "عروبة 22")