ما الذي يجعل صورة الطبيب الفلسطيني حسام أبو صفية وهو يسير فوق حطام مستشفى كمال عدوان في شمال غزة نحو دبّابتين إسرائيليّتين أيقونيةً إلى هذا الحدّ؟ أهي عناصر التراجيديا الإنسانية التي بإمكانها تخطّي كل حدودٍ جغرافية أو زمنية؟ أم هي عناصر الجغرافيا والزمن المحدّدة التي تجعلها الأكثر دقّة وتعبيراً عن الملحمة الغزاوية وعن أحوال فلسطين المحتلّة في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2024 حين التُقطت الصورة؟
لا شكّ أن جوانب من الجواب تكمن في شمول الصورة على العناصر المذكورة جميعها، موضعية وزمنية أو متخطّية لموضعها وزمنها، وهي توثّق للحظة استثنائية القسوة كونياً (إنسانياً) وفلسطينياً: لحظة خروج طبيب بعد تدمير مستشفاه وقتل أو تشريد العاملين والمصابين فيه، وسَيرِه بثوبه الأبيض نحو البرابرة المدجّجين بآلات الموت التي تجثم فوق الحطام العظيم.
ولعلّ التمعّن في الصورة يُظهّر لنا تفاصيل إضافية ترفد الجواب إياه. ذلك أن بطلها الذي نراه من الخلف، خارجاً من بين الأنقاض، يتحرّك في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يفترضه استكمالُ نجاته أو خلاصُه الفردي. يسير بين أشلاء البيوت والسيارات وغرف المستشفى وتجهيزاتها المكسّرة وقطع الزجاج وبعض الأقمشة المتدليّة ممّا كان شرفات، ويتّجه صوب الدبابتين المركونتين أمامه على اليسار. الدبابة الأقرب إليه قليلة الملامح. كأن أشعة الشمس المسلّطة عليها، نتيجة فراغ أحدثه على الأرجح دمار تام بين بقايا مبنيَين، تغطّيها بالكامل وتعزلها عن فيء باقي أنحاء المساحة المصوّرة. الدبابة الثانية، أكبر حجماً وأكثر وضوحاً وأشدّ عدوانية على المكان الذي تكاد تقفل المنفذ منه وإليه.
يسير حسام أبو صفية بثوبه الأبيض وبهويّته الفلسطينية صوب الدبابتين الإسرائيليّتين ويلتقط المصوّر مهند المقيد خطواته الأخيرة في هذا الموقع القياميّ، مؤكّداً نجاته المؤقتة ومعرّفاً بالقتلة السجّانين… على أن أيقونية الصورة هي أيضاً في قصّتها وفي تفاصيل القصة. في قصة الطبيب ومستشفاه، وفي قصة الدبابتين وما تسبّبت به همجيّة من بداخلهما. وأيقونيّتها هي في خلوّها من الجماليّات ومن البحث المعهود في الصور "الخالدة" عن توازن ضوئي أو هندسي أو عن علاقة باللحظة التي لا يمكن تكرارها.
فصورة أبو صفية تبدو رغم التقاطها الضروري، غير مشروطة بالتوازنات ولا بلحظة الالتقاط التي كان يمكن أن تتكرّر، بعدد مرّات يساوي على الأقل عدد خطوات الطبيب الخارج من أنقاضه سيراً بطيئاً نحو معتقِليه. وعدسة المصوّر إذ حاولت تقريب مشهد الحدث لتوثيقٍ ظنّته يحمي طبيباً إذ يُثبت هويّة الجناة ضدّه، قلّصت من نوعية الصورة نفسها، وتركت للتناقض الصارخ بين حضور الموت في مختلف أرجائها، وبين الثوب الأبيض في وسطها، أن يحكي لنا كلّ شيء. أن يروي كيف عمل طبيب حتى اللحظة الأخيرة على إنقاذ المصابين المنقولين بمعجزة إلى مستشفاه. وأن يروي كيف واجه فلسطيني غزاوي الغزاة وحرب الإبادة التي يخوضونها منذ خمسة عشر شهراً وسار فوق الأنقاض بصدره المكشوف صوب مدافعهم.
وأيقونية الصورة هي بالتأكيد في فرضها الأسئلة عمّا سبق التقاطها وما تلاه. في فتحها الحكاية من أولها. حكاية مستشفى اتّخذ من اسم كمال عدوان مسمّى له؛ من اسم قائد فلسطيني قتله الموساد الإسرائيلي في بيروت العام 1973 (مع كمال ناصر وأبو يوسف النجار، في عملية قادها إيهود باراك) مسمّى لعنوانٍ للشفاء ولحماية الحياة والذاكرة والدفاع عنها في قطاع غزة. وحكاية طبيب وُلد في مخيّم جباليا شمال القطاع، بعد أن هَجّرت النكبةُ عائلته من منطقة عسقلان. فدرس وطبّب وعاش بين أهله وذويه وصحبه، وتولّى إدارة مستشفى، وظلّ يعمل فيه رغم الحصار والطائرات ورغم قتل البرابرة لابنه قبل شهرين من التقاط صورة الخروج المُهيب.
أيقونية الصورة هي بالتالي في زمنها الطويل. في كون حكايتها سابقة على لحظة التقاطها، ومثلها حكايتها اللاحقة التي تثير العديد من الأسئلة والتكهنّات. كم خطوة إضافية مشى قبل اختفائه داخل إحدى الدبابتين؟ وما الذي حدث له بعد اعتقاله أو خطفه وإلى أين نقله الجناة؟ وما الممكن فعله لمعرفة مصيره والضغط لتحريره؟ وما الذي حلّ بباقي أفراد الطاقم الطبي لمستشفى كمال عدوان؟ وماذا عن عشرات المصابين الذين كانوا فيه وأُجبروا على الخروج؟ هل ساروا على نفس الدرب ومروا أمام الدبابتين؟ هل اعتُقلوا ونُزعت الأمصال من أذرعهم؟ ثم كيف لا يتحرّك أصحاب "الثوب الأبيض" في العالم بأسره وهم ينظرون إلى زميل لهم سائراً نحو مدافع الآليات التي سبق أن دمّرت مستشفاه؟
صورتنا الأيقونية هذه هي صورة غزة البارحة واليوم وغداً. هي صورة جماعة بشرية يمثّلها فردٌ أعزل مهنته الشفاء وتأجيل الفناء الذي أرادته وتريده دبابتان دمّرتا جدراناً وأسرّة وغرف عمليات شهدت أوجاعاً ودموعاً وابتسامات وانطفاءات عيون ونجاةً وترميمَ حياة. وهي صورة لعالمنا اليوم. صورة خراب وخرس وخوف من دبابتين وإشاحة نظر عن طبيب أنقذ ما أمكن إنقاذه ثم خرج مكشوف الصدر نحو الكامنين له وللمصوّر، وربما لنا إن أطلنا التحديق في مدافعهم وفي صاحب الثوب الأبيض المتّجه وحيداً نحوهم.
صورة حسام أبو صفية الأخيرة قبل الاعتقال هي توثيق مجازيّ وواقعي بصري لحرب الإبادة المتواصلة ضد قطاع غزة. فيها آلات الإبادة المستهدِفة طبيباً كافح جرائمها. وفيها معنى الإبادة المتمثّل بالقتل والتعذيب ومنع التطبيب ومقومّات الحياة ذاتها. وفيها أخيراً تكرار السؤال الوجودي إياه: ماذا نفعل حيال إبادة يقتل في ظلها الإسرائيليون مئة فلسطيني وفلسطينية ويجرحون مئتين آخرين كل يوم منذ أكثر من 450 يوماً، ويعدمون أو يخطفون الأطباء والممرضين والمسعفين، كي يغتالوا الشفاء والأمل بالنجاة؟
صورة حسام أبو صفية الأخيرة قبل الاعتقال هي صورة غزة في موتها وحياتها.
وهي أيضاً صورتنا في عجزنا وغضبنا وألمنا إذ نرنو إليها…
(القدس العربي)