تقدير موقف

خططُ الجنرالات "من النّيل إلى الفُرات"!

منذ تأسيسِ دولةِ الكِيان الصّهيوني، يضعُ الجنرالات بصفةٍ مُستمرّةٍ خِطَطًا تتعلّق بتوسيعِ نفوذِ إسرائيل الجُغرافي والسِّياسي، وتعتمدُ على المزْجِ بين العملِ العَسكري والاستيطاني.

خططُ الجنرالات

تعدَّدَت خِطَطُ الجنرالات لتحقيقِ الحُلْمِ الأكبر لدولةٍ سرطانيّة ترغبُ في التّمدّد والتّوسّع والسّيطرة على حسابِ أصحابِ البِلاد الأصليّين، ولا تكتفي بِما استحوَذَت عليْه بوسائلِ الطّرد والنّفي والتّطهير العِرقي في فلسطين العربيّة، بل تعملُ على تحقيقِ فكرةِ أنّها دولة تمتدّ "من النّيل إلى الفُرات" ومن "النّهر إلى البَحر".

وخطّةُ "من النّيل إلى الفُرات" متجذِّرة في الفِكرِ السِّياسي الصُّهيوني وتستندُ إلى نصوصٍ تَوْرَاتِيَّةٍ، تُشير إلى حدودِ الأرضِ التي وعدَ بِها الله بَنِي إسْرائيل في التَّوراة، ففي سِفْرِ التّكوينِ (18:15) في ذلك اليوم قَطَعَ الرَّب مع إبراهيم ميثاقًا قائلًا: "لِنَسْلِكَ أعطي هذه الأَرْض، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إلى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ".

هذه لنَا وتِلك أيضًا

تعكس خططُ الجنرالات استراتيجيَّةً إسرائيليَّةً طويلةَ الأمَد، إذ تسعى لدمجِ دولٍ منها فلسطين ومصر والأردن وسوريا والعراق ضمْن حدود الدَّولة الّتي ترى أنّها دولة ديناميكيَّة الحُدودِ وليْسَت استاتيكيَّة ثابتَة، وهي ترى أنّها صاحبَة الحقِ وفق سياساتِ الأمرِ الواقعِ والتَّأييد الغَربي المُطلق. ولنَا أن نتخيّلَ ذات يومٍ إن تمكّنت فيه "إسرائيل" من التَّوسُّع على حساب دولٍ عربيَّة مُجاوِرة، وتقول شعار "هذِه لنَا وتِلك أيضًا"، فهل ستمانعُ الدّول الأوروبيَّة وبالأخص الولايات المتّحدة الأميركيَّة؟ الجوابُ معروف.

الولايات المتّحدة الأميركيّة تدعمُ وتُنفّذُ كل ما تريدُه "إسرائيل" من أجل تحقيق "الحلم الأكبر"

ومن النَّاحيَة العمليَّة، عَمِلَ العديد من الجنرالاتِ لتحقيقِ هذا الحُلم، ولا ننسى أنَّ التَّاريخ يُذَكِّرُنَا بأنَّ أحلامَ الوطنِ المَزعوم التي كانت مستحيلةً ذات يوم تحقَّق منها الكثير الآن.

خَريطة الحَديد والنَّار والدُّموع

في أحدِ خطاباتِ ديفيد بن غوريون، قال: "إنّ خريطةَ فلسطين الحاليَّة إنّما هي خريطة الانتدابِ وللشّعب اليّهودي خريطةٌ أخرى يجبُ على شبابِ اليهود أن يحقِّقوها، وهي خريطة التَّوراة"، والخَريطةُ المَوجودةُ على شعارِ الحَركةِ الصّهيونيَّة تَشْمَلُ مساحةَ من "النّيل إلى الفُرات"، رمزًا لحلْمٍ قوْمي لا بدّ من وضعِ مخطََّطَاتٍ عسكريَّةٍ لتحقيقِه. وهي خريطةٌ لحلمٍ لن يتحقَّقَ إلّا بالحديدِ والنَّار والدُّموع، كما قال عنها أكبرُ مُنظِّري الحركَةِ الصّهيونيّة فلاديمير جابوتنسكي (توفي عام 1940) وصاحب إيديولوجية "الجِدار الحديدي" التي ترى وجوبَ ترحيلِ العربِ بالقوَّة من بلادِهم وسحقِهم من أجل السَّيطرة على الأرض.

وكانَ جابوتنسكي يَرى أنّه يجب أن تمتدَّ الدَّولةُ اليَهوديَّةُ إلى حدودِها التَّوراتيَّة، ومن أفكارِه تِلك خَرَجَ "حزب الليكود" فيما بعد وتبنّى أفكارَه التَّوسُّعيَّة إسحق رابين وإسحق شامير وأرييل شارون وصولًا إلى بنيامين نتنياهو الذي يعتبر جابوتنسكي مُلهمَه ومرشدَه الرُّوحي الأكبر.

بعد حرب 1967، رَأَتْ "إسرائيل" أنَّ حلمَ الجنرالات قد اقتربَ بخاصّة بعد الاستيلاءِ على سيناء والجولان، وعمِلت على الحفاظِ على تفوُّقِها العسكري في المِنطقةِ لضمانِ أمنِها، وهذا يشملُ تطويرَ جيشٍ قوي، ودعمٍ استخباراتيٍ متقدّم، وتحالفاتٍ دوليّة خصوصًا مع الولايات المتّحدة الأميركيّة التي تدعمُ وتُنفّذُ كل ما تريدُه "إسرائيل" من أجلِ تحقيقِ "الحلمِ الأكبر".

خطّة "عوديد ينون"

ومن أخطرِ الخِطَطِ التي اعتمدَها الجنرالات، هناك خطَّة "عوديد ينون"، وهي خطَّة إستراتيجيَّة نشرها مستشارٌ سابقٌ لـ"أرييل شارون" ومسؤولٌ سابقٌ في وزارة الخارجيَّة الإسرائيليَّة "عوديد ينون" في عام 1982 في مجلَّة "كيفونيم" النَّاطقة باسم إدارةِ الإعلامِ في المنظَّمة الصُّهيونيَّة وتُشير إلى تفتيتِ الدُّول العربيَّةِ الكبرى (مثل العراق وسوريا) إلى دولٍ صغيرة على أُسُسٍ طائفيَّة وإثنيَّة.

خططُ الجنرالات ليْست البداية ولن تكون النِّهاية ولا بدّ من تعزيز الوحدة العربيَّة

وأحدثُ خطةٍ اقتُرِحَت تلك التي طرحها الجنرال السَّابق في الجيشِ الإسرائيلي "غيورا إيلاند" على بنيامين نتنياهو، وتبنّاها عددٌ كبيرٌ من جنرالات الجيش، لذلك سُمِّيَت بخطَّة الجنرالات. ووُضِعَت الخطّة في سبتمبر/أيلول 2024، بهدفِ تهجيرِ سكّان شمالِ قطاع غزَّة قَسْرًا، وذلك بفرضِ حصارٍ كاملٍ على المِنطقة، بما في ذلك مَنْعُ دخولِ المُساعدات الإنسانيَّة، لتجويعِ من تبقَّى من المدنيِّين، وكذلك تجويع المُقاوِمين ووضعِهم أمام خيارَيْن إمّا الموْت أو الاستسلام. ثمّ يتمُّ تحويلُ شمال القطاعِ إلى "منطقةٍ عسكريَّةٍ مغلقةٍ" ثم التَّمهيد لإقامةِ دولةٍ فلسطينيَّةٍ في سيناء.

الشّرق الأوسط الجديد

وتتوافقُ الخطَطُ مع رؤيةِ "بنيامين نتنياهو" للشَّرق الأوسط الجديد تَجْسيدًا لطموحاتٍ إسرائيليَّةٍ تاريخيَّةٍ في توسيعِ نفوذِها، والسَّيطرة على الأراضي الفلسطينيَّة، مُستندةً إلى إيديولوجيَّةٍ صهيونيَّةٍ، تهدفُ إلى ضمِّ الأراضي المُحتلَّة، وتحقيقِ الأمنِ القَومي الإسرائيلي باتِّباع سياسةِ الحرْب الاستباقيَّة وضربِ الأعداءِ قبل أن يتمكَّنوا من شنِّ هجمات، والسّيطرة على المناطقِ الاستراتيجيَّةِ لضمانِ تفوُّقٍ جُغرافي وعَسكري.

إنهاء الانقسام الدَّاخلي الفلسطيني هو الأساسُ لتقويَةِ الموقفِ السِّياسي والميْداني

تتوافق هذه الرؤية مع خِطَّةِ "صَفْقَةِ القرْن"، لتعزيزِ التَّوسُّع "الإسرائيلي"، حيث يُنظرُ إلى الحدودِ المُقترحةِ على أنَّها تسعى لتغييرِ الخريطة السِّياسيَّة لتَشملَ عددًا من الدُّول العربيَّة. وما تمَّ طرحُه يُعَدُّ غيضٌ من فيْض، ما صنعوا ويصنعون وسيصنعون لحياكةِ ونسجِ شرق أوسطٍ جديد.

كيف يمكن مواجهةُ هذه الخطط؟

لأنَّنا في ربع السَّاعة الأخير، فخططُ الجنرالات ليْست البداية ولن تكون النِّهاية ولا بدّ من تعزيزِ الوِحدة العربيَّة، وبناءِ تحالفاتٍ دوليَّةٍ مع القِوى الكبرى مثل الصِّين وروسيا لضمان التَّوازن في المِنطقة، وحشدِ الدَّعم الدَّولي للضَّغط على إسرائيل لاحترامِ القوانينِ الدَّوليَّة.

إنّ استمرارَ المُقاومَةِ الفلسطينيَّة من شأنِه أن يُشَكِّلَ تحدِّيًا مستمِرًّا لسياسةِ الاحتلالِ والاستيطانِ، وتعزيز الوِحدةِ الفلسطينيَّةِ وإنهاء الانقسام الدَّاخلي الفلسطيني هو الأساسُ لتقويَةِ الموقفِ السِّياسي والميْداني.

ونختمُ بمقولةِ المُفكِّر اليوناني يورغوس ميترالياس الذي يقول: "قد تبدو إسرائيل اليومَ أكثرَ قوَّةٍ وغطرسَةٍ من أي وقتٍ مضى، لكنَّها في الواقعِ تعيشُ أسوأَ أزْمةٍ وجوديَّةٍ في تاريخِها، فهي تتعفَّنُ وتتفكَّكُ من الدَّاخل، وقد بدأ العدُّ التَّنازُلي واقتربَت ساعةُ الحقيقة"!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن