بصمات

عن "الجَماليّة" العربيّة الإسلاميّة في الأندلس

أمضى ميغيل بويرتا ابن قريةٍ صغيرةٍ في غرناطة نحو ثلاثين عامًا في حقْل الدّراسات العَربيّة الإسْلاميّة في إسبانيا، ولا يزال حتّى الآن يبحثُ في هذا الإرْث الحَضاري الذي راكمَه التّاريخ. كأنّ العُمران قد توقَّف هناك في الصّروح المِعماريّة والبُحوث المَعرفيّة والثّقافيّة والجَماليّة والفَلسفيّة في الفَترة التي تُعرِّف عن نفسِها بالحِقبة الكْلاسيكيّة كعلومٍ ومنهجٍ عن الاتّباعيّة الأوروبيّة للقرن الثامن عشر.

عن

لطالما فُهِمَ الفِكر العَربي الإسْلامي بتنوّعاتِه المُتعدِّدة وتضارُب مذاهبِه الفكريّة والمُتأثّرة بالصّراعات الاجتماعيّة، على أنّه تكرارٌ للفلسفةِ اليونانيّة، أو مجرّد كتلةٍ تفتقرُ إلى أي عقلانيّة. ضِمْن هذا المَعنى، تقرأ في كتابِ "الجَماليّة في الفِكرِ الأندلسيّ"، من سلسلةِ كُتُبِ حضارةٍ واحدَة عن "مؤسّسة الفِكر العربي"، بيروت 2023، ومن خارجِ الشّرط والظّروف الّتي قام عليْها الجَمال في أوروبّا.

الحضارة العربيّة الإسلاميّة كانت واحدةً من الصّروح التي ترتدي طابعَ المِثاليّة قياسًا إلى هشاشة عالمِ اليوم

تَنْصَهِرُ في الكتابِ تِلك الحِقْبَة الّتي شكّلت ذُروة المَرحلة الإسلاميّة على المُستويات كافّة، الكوْن والأشياء والواقع والحياة والأخلاق والعلاقات المُتعدّدة والمُتنوّعة ومفهوم الضوْء والجمال كعلمٍ مستقلّ (ابن حزم)، وعلمِ النّفس الفنّي الاجتماعي (ابن خلدون)، وتطوّرات الفكرِ الصّوفي الخاصّ (ابن عربي) لتفسيرِ التُّراثَيْن الفِكري والثَّقافي في سياقهِما التّاريخي مع مراعاةِ التّنوّع والطّبيعة الفلسفيّة لمفاهيم وآفاق جماليّة عربيّة إسلاميّة.

هكذا، يُعيدُنا النّتاج الأَندلُسي لدراسةِ مفكّرين ذوي أهمّية بالِغة مثل ابن حزم، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن عربي، وابن خلدون، من أجل إبرازِ التّيهِ الحاصلِ في الذّات الإنسانيّة العَربيّة واتّجاهاتِها الحَديثة.

كانت الحَضارةُ العَربيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة واحدةً من الصّروح التي صارَت ترتدي طابعَ المِثاليّة قياسًا إلى هشاشَةِ عالمِ اليوم، وفي ذلك قَتْلٌ لها.

في هذا الإرْثِ المَذْكورِ في الكتابِ، تكتشفُ ذُرْوَةَ تشكيلِ المَجال المَفاهيمي لتلك الجَماليّة في ثقافةِ ما قبل النّهضة الأوروبيّة وما بعدها، وذلك من خلالِ التّرجمات اللّاتينية للفارابي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وتكوين الذّات المَعرفيّة والفَلسفيّة نهاية القَرن الثّامن وبداية التّاسع.

التّاريخ كان قاسيًّا على نحوٍ خاصّ مع تِلك المرحلةِ المَسْكوت عنْها، وتم استبدالُها بمرحلةٍ من المآسي والرّجعيّة في التّاريخ المُعاصِر عبْر شَيْطَنَةِ هذا الفكر في تنوّعه وأخلاقيّاته وجماليّاته وهي واحدة. كأنّنا أمام أجناسٍ جديدة، ويفتقرُ العالمُ ٳلى النُّسخ اللّاتينية، أسيرُ النُّسخ العبْريّة وتهْويماتِها وتهْديداتِها في زمنِ الصّراعات الدّاخليّة والقمعيّة التي تهدّد وِحدة الإسْلام في أسوأ أوضاعٍ من رَجعيّة التّأهيل والفوْضى وعدم المُساواة وضياع الأمكنَة، حيث يستبدلُ الجمالُ الأخلاقي في المُدنِ الفاسِدة والرّعيّة في جمْع الأموالِ والثّروات، بمجتمعاتِ ما بعد الطّبيعة. هذا الإيضاحُ هو أكثرُ ما ينطبقُ عليْه لسانُ العرب، ما يفترض نقدَ الواقعِ بوضوحٍ كامل.

نحتاجُ ٳلى معرفة الغامضِ لإعادةِ كتابةِ وتفسيرِ التُّراثِ الدّيني والفَلسفِي بأكملِه وبشكلٍ إيجابي لموقف هنري كوربان وسليمان العطّار ونصر حامد أبو زيد وعبد الوهاب المِدب، وإضافةِ صورٍ جديرةٍ بالإعْجابِ علميًّا وفلسفيًّا وفنّيًّا ودينيًّا وأدبيًّا. مع ذلك، وعلى الرّغم من كلّ ما حدث، تبقى هوامِش وإنْ متفائِلة تُبْرِزُها صفحاتُ الكتابِ وسْط الخطرِ الدّاهم مع العُدوانِ الٳسرائيلي على المِنطقة والاستبدادِ والكَراهيّةِ العُنصريّةِ التي تَرْتَكِبُ جرائمَ ضدّ الإنسانيّة.

لينخرِطَ المُجتمعُ في الحداثةِ بدل أولئك العلمانيّين الذين قَتَلُوا الدِّين باسم "الدّيموقراطيّة"

الشّعوب العربيّة والإسلاميّة في تَصادُماتِها في ظُلمات الدّاخل وتشابُكاتِه وأنفاقِه ومجهولِه، وفي تلك الفَضاءاتِ المُتناقضةِ والمُتجادلةِ بخلافِ الفضاء الإسباني الواسِع الذي كان يُمْكِنُ أن ينتقلَ بها من زمنٍ ٳلى زمن ومن حالٍ ٳلى حال لينخرِطَ المُجتمعُ في الحداثةِ اليَوميّة والحَياتيّة بدل "صَدمة الحداثة" التي فتحت لها المُجتمعات العربيّة الإسلاميّة أبوابَها، وبدل أولئك العلمانيّين الذين قَتَلُوا الدِّين باسم "الدّيموقراطيّة" التي جاءت بإسرائيل العُنصريّة وبالنّار إلى المنطقة. والنّتيجة أزمانٌ بلا جدران وبلا وجوه وبلا هُويّة تَرسمُ الجَمال في المستقبلِ ولا حتّى بتكرارِ الأشياءِ القديمةِ وإعطائها حياة جديدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن