وجهات نظر

العقل السياسي الوثاب والرأسمال الثقافي والخبراتي التراكمي

حالة السياسيين ما بعد الحرب الباردة تشير إلى تراجع في خبراتهم وملكاتهم وقدراتهم في التفكير الاستراتيجي ومهاراتهم السياسية في مواجهة أزمات عالمنا المتفاقمة، وعلى صعيد التعامل مع مشكلات مجتمعاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مقارنةً بجيل ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية.

العقل السياسي الوثاب والرأسمال الثقافي والخبراتي التراكمي

تستدعي الذاكرة التاريخية بعض العقول السياسية اللامعة في السياسة الدولية مثل ونستون تشرشل – نوبل في الأدب - والجنرال شارل ديجول، وفيلي برانت – نوبل للسلام ١٩٧١ - وفرنسوا ميتران، وذلك لرهافة عقولهم السياسية الخلّاقة، وملكاتهم السياسية في العمل الحزبي في صعودهم الداخلي وتعاملهم مع مناوراته ودهاليزه حتى وصول بعضهم إلى مواقعهم القيادية العليا ثم خوضهم الانتخابات المحلية والعامة ونجاحهم في الوصول إلى سدة السلطة وقيادة بلادهم في ظروف صعبة.

ما ميّز جيل ما قبل وما بعد الحرب الثانية تمثّل في تكوين العقل السياسي الخلّاق، الذي تجسّد في بعضهم من خلال امتلاك القدرات على تحليل المشكلات وتفكيكها وتحديد الفاعلين الدوليين في إطارها، وسياقاتها وأبعادها المختلفة.

إنها القدرة على التنبّه الذكي للمشكلات والأزمات في مهادها وعلاماتها الأولية والتعامل معها حتى لا تغدو مشكلة معقّدة ومتفجّرة. إنها ملَكَة الحساسية السياسية التي تعتمد على المعلومات، والقدرة على تحليلها، واستشراف مآلاتها والعقل السياسي الوثاب، والتفكير اللانمطي خارج الأطر المألوفة، والسياجات الحزبية والتقاليد الموروثة سياسيًا، واجتراح مسارات مختلفة في صياغة السياسات والقرارات التي تربك الخصوم.

العقل السياسي الخلّاق تراكميّ في درسه واستيعابه لتاريخ بلاده والأقليم والعالم

اعتمد هذا النمط الخلّاق من السياسيين الكبار على العقل السياسي الدينامي، والتراكمي المستمَد من عديد المصادر؛ أولها: الرأسمال الثقافي، والتكوين المعرفي من خلال التعليم والاطلاع، والعقل النقديّ الحرّ، لأنّ السياسي في السلطة يستهلك هذا الرأسمال ومجموع معارفه التي تشكلت قبلها كما ذهب كيسنجر في سنوات البيت الأبيض. ثانيها: الرأسمال السياسي الخبراتي والذرائعي في مجتمع مفتوح يعتمد على التنافس السياسي والحزبي وتوازنات القوة، والحركة والفعل السياسي وسط قواعد اجتماعية يمثّل مصالحها ويعبّر سياسيًا عنها، ويخاطب طبقات وشرائح أوسع عندما يصل إلى السلطة. ثمة أيضًا خبرات العمل التنظيمي داخل الحزب والمنافسات داخله والترشح إلى الانتخابات في المحليات والولايات.. إلخ، وتشكيل خبراته ما قبل البرلمانية وفي الحكم.

العقل السياسي الخلّاق تراكميّ في درسه واستيعابه لتاريخ بلاده والأقليم والعالم، والأهم التجارب التاريخية المختلفة، والأزمات وكيف تعاملت معها القيادات السياسية التاريخية، ومساحات النجاح والفشل، ومن ثم امتلاك الوعي والدرس التاريخي دونما إعادة إنتاجه كمأزق في مراحل وسياقات ومتغيّرات سياسية مختلفة.

العقل السياسي الخلّاق يعتمد على مراكمة الخبرات وتطويرها، وعلى جماعة الخبراء المتخصصين في مجالات مختلفة نظرًا لتعقد الظواهر والعلوم في مجالاتها ويوازن بينها، والقدرة على تقويمها نقديًا. ثم الاعتماد على مراكز البحث المستقلة، وعلى إنتاجها مع تقديرات أجهزة الدولة الاستخباراتية والأمنية والبيروقراطية.

العقل السياسي التراكمي الخلّاق لديه ملَكة الموازنة بين الآراء المختلفة، وعدم الجمود عند آرائه المسبقة التي تشكّلت عبر مساره السياسي، وإنما يستصحبها، ولكن لا يجمد عندها إذا كانت هناك آراء مختلفة وجادة وموضوعية ومواكبة للتغيّرات الدولية أو القومية.

العقل السياسي الخلّاق التراكمي يمتلك موهبة ومهارة مخاطبة اتجاهات الرأي العام على اختلاف مكوناته الاجتماعية والسياسية، من خلال خطاب سياسي عقلاني ومتجدّد، ويحمل تحليلًا للمشكلات والظواهر والمتغيّرات والرؤى الملائمة في التعامل معها من منظوره السياسي.

العقل السياسي الخلّاق والتراكمي يمتلك نظامًا للّغة السياسية متميزًا – مثال تشرشل وميتران - ويعكس الموارد اللغوية الثرية التي راكمها السياسيون، وقراءاته وتمثلاته للّغة في الأدب والفلسفة والسياسة والشعر والتاريخ.

هي لغةٌ خاصة، وهجينٌ بين اللغة السياسية المستمَدة من التقاليد الفلسفية الليبرالية وآلتها الإصطلاحية، وأيضًا لغة حزبه السياسي. ثمّة أيضًا تناصات في نظامه اللغوي المتميّز والثريّ مع اللغة السياسية لخصومه، ويتمّ توظيفها في نقد خطاباتهم السياسية في الحكم أو المعارضة.

السياسيون الاستثنائيون تتجلى قدراتهم في الأزمات الكبرى والتكيّف السريع مع المتغيّرات بكفاءة ورصانة وعقلانية

تبدو اللغة السياسية للسياسي الخلّاق ثرية في أسلوبه اللغوي الذي يمثّل حساسية السياسي، وملكاته اللغوية لأنه لا بدّ أن يكون قادرًا على السيطرة عليها وإلا أنها يمكن تؤدي إلى انفجار، على نحو ما يذهب برتراند راسل: "تُشبه اللغة المتفجرات، بحكم أنّ إضافة أدنى عنصر، يمكنه أن يتسبّب في آثار خطيرة.. فكّروا إذًا في كلّ تبعات تلفظ هتلر بكلمات: الحرب".

السياسي البارع هو أسلوبه وبيانه اللغوي الذي ينسج خيوط الإقناع لدى مستقبلي ومتمثلي خطابه. هذا الأسلوب يبدو متجليًا في الذكاء والذوق اللغوي، في خطابه الشفاهي ومقابلاته التلفازية، وفي الأداء البرلماني وردوده على خصومه السياسيين. يبدو أيضًا في بلاغته السياسية والمنطق والمعلومات التي ينسج من خلالها آراءه وتدليله عليها على نحو يؤثّر في المشاعر والوعي السياسي شبه الجمعي لقطاعات وازنة من الرأي العام، والطبقة السياسية ورقابة الجماعة الناخبة، والرأي العام والصحافة والإعلام على أداء الحكومات والسياسيين بل وإسقاط بعض كبار السياسيين كما حدث مع تشرشل في الانتخابات على الرغم من دوره التاريخي، واستقالة ديجول بعد أحداث الطلبة في باريس ١٩٦٨.

هذا العقل السياسي التراكمي الخلّاق جاء ويجيء من قلب الصراعات والمنافسات، وأيضًا بلاغة الحكم الرصين، والخيال السياسي الوثاب، والحروب ومسارات حياتية صعبة ومؤلمة، ووراءه سردية سياسية مثخنة بالجراح، وذات خصوصية واستثنائية، وفشل ونجاحات، وصعود وهبوط.

هذا النمط من السياسيين الاستثنائيين واللامعين تتجلى قدراتهم في الأزمات الكبرى وكيفية التعامل معها وإدارتها والقدرة على التكيّف السريع مع المتغيّرات في كفاءة ورصانة وعقلانية.

سياسيو ما بعد الحرب الباردة في أوروبا اتّسم خطابهم بالتناقض والخضوع للسياسة الأمريكية

جيل ما بعد الحرب الباردة جاء مع نهاية السرديات والايديولوجيات الكبرى، التي سبقتها فترة أطلق عليها بعضهم في فرنسا الايديولوجيا الناعمة حيث غامت التمايزات الايديولوجية بين اليمين واليسار وتمدّدت البراجماتية المبتذلة، وسيطرة الرأسمالية النيوليبرالية الوحشية وهيمنة المصارف الكبرى على تفكير السياسيين – مثال فرنسا من ساركوزي وماكرون –، واتّسم خطابهم السياسي بالرعونة والتناقض وعدم القدرة على التأثير، وخضوعهم للسياسة الأمريكية ومصالحها وبعض تناقضاتها! في ظل عالم الثورة الصناعية الرابعة، وبعض الاضطراب والسيولة وعدم اليقين في النظام الدولي تبدو قدرات وملكات بعض السياسيين في أوروبا، غربها وشرقها، تفتقر للمبادرة والخيال السياسي والفعل الخلّاق! وتبدو الحركة نحو اليمين المتطرف تعبيرًا عن فشل بعض هؤلاء السياسيين على نحو ما يبدو في انفجار غضب بعض شرائح الطبقة الوسطى في فرنسا أثناء حركة السترات الصفراء، ورفض قانون الإحالة للتقاعد ومظاهرات مقتل الشاب الفرنسي من أصول عربية مؤخرًا!.

إنها مؤشرات على نهاية صلاحية بعض سياسيي ما بعد الحرب الباردة في أوروبا! 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن