العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

العرب ونقدُ التِّكنولوجيا (1/2)منظورُ الفَائدة التَّفاعليَّة

يَتَّسِمُ عالمُنا اليوم بالتَّناغُمِ التِّكنولوجي العَوْلمِي من خلالِ الاعتمادِ المُتبادلِ بين الأفرادِ والجَماعاتِ على استخدامِ أنظمةِ الحَوْسَبَةِ الشَبكيَّةِ الرَّقميَّةِ في شتَّى المَجالات، الأمرُ الذي يعزِّزُ العمليَّةَ التَّفاعُليَّةَ المستمرَّة في الاتِّصال الثّقافي والتَّواصل الاجتماعي، ومُبادَلةِ الأفكارِ والأدوارِ، وفتحِ الإمكاناتِ المَعلوماتيَّةِ المُتجدِّدة لكلِّ المُتفاعِلين.

العرب ونقدُ التِّكنولوجيا (1/2)
منظورُ الفَائدة التَّفاعليَّة

وقد تعزّزت هذه العملية التّفاعُليّة خصوصًا بعدما ظَهرَت تِكنولوجيَّات الذَّكاء الاصطناعي الاجتماعيَّة والإداريَّة والماليَّة والتَّرفيهيَّة وغيرها؛ القادرةَ على تقريبِ المَسافاتِ والقُدراتِ الذّهنيَّة بين الأفرادِ والآلات، مثل تطبيقاتِه المُخَصَّصة لأجهزةِ "أنْدرُويْد" وغيرِها؛ والتي انتشرَت مؤخَّرًا وأصبحَ بواسطتِها يمكِنُ أداءُ المُهمَّات، والتساؤُل، والحصُول على الإجاباتِ المُفيدة، والتَّفاعُلِ بين المُستخدِمين عبْر محاكاةِ اللّغةِ البشريَّةِ الطّبيعيَّةِ، والقيام بعملياتِ التَّحكُّمِ في أجهزةِ الأعمالِ التَّعليميَّة، والصِّحيَّة، والمَكتبيَّة، والمَنزليَّة. وأيضًا، تَطبيقاتٌ ذكيَّة أخرى للعملياتِ اللوجستيَّةِ والعسكريَّةِ والأمنيَّة...

كذلكَ، في الوقتِ الذي لا يمكنُ فيه تجاوُزُ المُعطَياتِ الأساسيَّة لكلِّ هذه التَّطوُّراتِ التِّقنيَّة الذَّكيَّة، والمُرتكزاتِ التي تدورُ عليها العملياتُ التَّفاعليَّة المُتبادَلة بين الإنسانِ والآلة. أوّلُها، أنَّ مُعْظَمَ المُنتجاتِ التِّقنيَّةِ المُستخدمَةِ، يأتي من مَصادِرَ عالميَّةٍ مُعيَّنةٍ، مُحدَّدةِ الأهدافِ والغاياتِ والتَّوجُّهاتِ والمَصالِح المُنتَجةِ ضمْن منظوماتِها الثَّقافيَّة، والتي في واقعِها تختلفُ عن بيئاتِ استخدامِها في مجتمعاتٍ مُغايِرة... من هنا، يبدو لمفهومِ "التَّفاعُليَّةِ" أبعادَ خاصَّة، جديرة بالتَّأمُّل.

يلزمُنا تقييمُ الفائدةِ التي تقدِّمها لنا مصانعُ التِّكنولوجيا الغربيَّة من وجهةِ النَّظر العربيَّة المُنطلقة من خُصوصيَّتِنا

يُشيرُ مُصطلحُ "التَّفاعليَّة" في أدبيَّات الحَوْسبةِ الشَّبكيَّة، إلى مُشاركةِ المُستخدِمِ في أيّ نظامٍ تِكنولوجي يستخدمُه في الفضاءِ السِّيبراني المفتوح، مساهِمًا كهُوِيَّةٍ افتراضِيَّةٍ في مظاهر التَّمثُّلاتِ النَّصِّيَّة والصَّوْتيَّة والمَرْئيَّة الشَّبَكِيَّة، من خلالِ تواصُلهِ المُتبادلِ مع الهُويَّاتِ الافتراضيَّةِ الأخرى بمختلفِ أشكالِها وألوانِها، بشرًا أو آلات... فالكلُّ عبارةٌ عن كيْنوناتٍ مُرَقْمَنَةٍ ومُبَرْمَجَةٍ، تتحاورُ مثلًا باستخدام النَّصِّ الخطِّي (linear text)، أو النَّصِّ التَّشَعُّبِي (hyper text)، أو الوَسائِط المُفرطةِ المُتشعِّبةِ (hyper media)، عن طريقِ التِّقنيَّات السَّمْعِيَّة والمَرْئيَّة، سواء مباشرةً على الخطِّ، أو بواسطة التَّسجيل الإلكتروني... ومن ثَمَّ فإنَّ العمليةَ التَّفاعليَّةَ الافتراضيَّةَ قلبَت مَوازينَ النَّظرِ والتَّساؤلِ والبحثِ والإنتاجِ المعرفِي والقِيَمِي.

إرهاصًا لهذا الشَّأن، من المنظورِ النَّقدي، كانت التحليلاتُ الأسَاسيَّةُ في أدبيَّات التِّكنولوجيا واستخداماتِها - في مرحلةِ الحداثةِ - تدورُ حول التَّساؤل عن فائدتِها وقيمتِها المَادِّيَة والمَعنويَّة في خدمةِ مصالحِ مُستخدِميها. لكنَّ السُّؤال الأبرز في هذا العصرِ، أصبحَ يتركَّزُ في ما وراء القِيَمِ المَنظورةِ وغيْر المنظورةِ للتِّكنولوجيا؛ فما أن تطوَّرت الحداثةُ الغربيَّةُ القائمَةُ على تَجلِّيَّات تِكنولوجيا الصِّناعَة، حتى ارتدَّ تساؤلُها على نفسِه، وباتَ يُطْرَحُ بصورةٍ مضادَّة، عن مدى فائدةِ الفائدةِ التِّكنولوجيَّة؟!

وإذا ما اعتبرْنَا النَّقدَ مراجعةً فاحصةً للمُنتجِ أيًّا كان نوعُه وفي أي مجالٍ كان، بغيَة فهمِه جيِّدًا، بإبرازِ ما فيه من جودةٍ أو رَداءةٍ، وتحديدِ نقاطِ قُوّتِه وضَعفِه، وتَقييمِ أهميَّتِه وقِيمتِه الحَقيقيَّة، ومدى فائدتِه للمُجتمعِ والحَياةِ ككلٍّ، فذلك يَعني ضرورةَ الكشفِ عما ينطوي عليه المُنتجُ المَنقودُ من أُسُسٍ ومبادِئ وأدواتٍ إجْرائيَّة، وفرَضيَّات، وقرَارات، وتَوجُّهاتٍ ومآلاتٍ متوقَّعَة... والنتيجةُ، أنَّنَا بإزَّاء نقدِ التِّكنولوجيا بفحصِ فائدتِها المُسوَّقَة هذه المرَّة؛ أي جَدواها المُستورَدَة بالنِّسبَة للمجتمعاتِ غيْر المُنتِجةِ لها، ومنها مجتمعاتُنا العَربيَّة... بعبارةٍ أخرى، يلزمُنا فحصُ وتقييمُ الفائدةِ التي تقدِّمها لنا مصانعُ التِّكنولوجيا الغربيَّة، من وجهةِ النَّظر العربيَّة المُنطلقةِ من خُصوصيَّتِنا الثَّقافيَّة والمَعرفيَّة والقِيَمِيَّة الاقتصاديَّة والأخلاقيَّة...

هل يمكنُ لعقلانيَّات الشَّرق أن تستعيدَ مجدَها لتُدلي بدلوِها في أعماقِ الطّوفان التِّكنولوجي المُعاصِر؟

في هذا السِّياق (منظورُ فائدةِ الفائدةِ التِّقنيَّة)، يؤكِّد المفكِّر الأميركي أندرو فينبيرغ (1943)، أنَّ ما عُرِفَ سابقًا بالثَّقافةِ الجَديدةِ (عقلانيَّة العلمِ والتِّكنولوجيَا)، هي الآن ثقافةٌ شاملةٌ غير مَحدودةٍ بأسئلتِها الذَّاتيَّة، بحيث أمكنَ طَرْحُ أسئلةٍ أكبر في خُصوصِها؛ حول قيمتِها وقابليَّتِها للتَّطبيقِ ككلّ. يمكنُ الحكمُ عليها بأنَّها أكثر أو أقلّ جدارةً، أو أكثر أو أقلّ تبريرًا أخلاقيًّا، أو أكثر أو أقلّ إرضاءً. لقد انتقلنا إلى مَا وَراء الفائدةِ، في ثَالوثٍ: الجدارة - الأخلاق - الرِّضا. وهذه الأسئلةُ الجَديدةُ، تَسْتقوِي أيضًا بمقوِّماتِ الحداثةِ عيْنِها القائمةِ على العقلانيَّةِ، فهي عينُها تُجيزُ هذه الأسئلةَ، بكلِّ المَقاييس.

إنَّ فلسفةَ التِّكنولوجيا من هذا المنحى، كما يُلاحَظ، تَنتمي إلى الوَعيِ الذَّاتي للمجتمعاتِ، الوَعي الذي يُعلِّمُ التَّفكيرَ فيما يُعتبرُ - بصورةٍ لاعقلانيَّةٍ تَمْتَحُ من العَقلانيَّة ذاتها - مسلَّمًا به. وهذا ما لم يُصَرِّحُ به فينبيرغ، ولكنَّه مفهوم ضِمنيًّا... فلقد انقلبَت "العقلانيَّة" على نفسِها، بنقدِها ذاتِها، نقدًا صادمًا، مُجيزةً أشكالًا أخرى للعَقلانيَّة، من خلال منظومةِ النَّقد التي ربّما لا تنتهي عناصرُها في آليَّتها الحَثيثة... لذا، تأزَّمَ الفكرُ الغربي في التَّوجُّهِ والتَّوجيهِ التِّكنولوجي، وأصبحَ فَلاسفةُ الغَربِ يَتلمَّسون نماذجَ تفكيرٍ أخرى، قد تُضيء المَسارَ الإنساني، وتكبحُ جماحَ الانفلاتِ الحضَاري المَشهودِ في زمنِنا الرَّقمي الافتراضي، المنفتحِ على كل الاتّجاهات والاحتمالات المُمكنةِ واللّاممكِنة!. فهل يمكنُ لعقلانيَّات الشَّرق المُختلفة، أن تستعيدَ مجدَها القديم لتُدلي بدلوِها في أعماقِ الطّوفان التِّكنولوجي المُعاصِر؟... هذا ما يُحَفِّزُ العقلَ والنَّظرَ والرُّوحَ لمزيدٍ من البحثِ والدَّرسِ والتَّجريبِ والإنجاز...

ليْسَ شرطًا أنَّ ما تُفيدُه التِّكنولوجيا لثَقافةٍ ما هو عيْنُه ما تفيدُه لثقافةٍ أخرى

مقارنةً بما تَقدَّم، نرَى أنَّ مسألةَ فَحْصِ فائدةِ الفائدةِ التِّقنيَّة الشَّبَكِيَّة - أو إن جَازَ القَوْل، نقد النّقد التِّكنولوجي المَعلومَاتي - إنَّما انْبثقَت من خلالِ ما تُقدِّمهُ الشَّبَكَات الافتِراضِيَّة للمُستخدِمين المُتفاعِلين مع بعضِهم البَعْض، وهم بطبيعتِهِم يُمثِّلون ثقافاتٍ مُختلفةً في قِيَمِها وتصوُّراتِها الحَياتيَّة، مُتباينة التَّساؤلات والاهتمامَات والمَصالح والاتجاهات... ما يعني بالضَّرورةِ اختلاف الفائدةِ التِّكنولوجيَّة المَطلوبة... فليْسَ شرطًا أنَّ ما تُفيدُه التِّكنولوجيا لثَقافةٍ ما، هو عيْنُه ما تفيدُه لثقافةٍ أخرى، على الرَّغم من وجودِ قواسِم ثَقافيَّة مُشترَكة في المُجتمعاتِ البشريَّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن