العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي!

في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، تبيّن أنّ هناك فجوة رقمية واضحة بين الدول التي امتلكت القدرة على الوصول إلى الاستفادة المعرفية القصوى من الإنترنت بفضل التقدم التقني في المجال الرقمي، وبين الدول التي ليست لديها تلك القدرة، إذ لا تملك المقوّمات الأساسية للبنى التكنولوجية الرقمية.

العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي!

في هذا الإطار، بدأ الحديث عن حقّ المواطن، أيّ مواطن في أيّ مكان على الكوكب، في المعرفة، والوصول الحرّ من دون وصاية إلى المعلومات، في شتّى المجالات، والاطّلاع الدائم لتدفّقها من دون حجب أو تقييد، وذلك بتعظيم الاستفادة المستدامة لجديد التقنيات الرقمية. إذ إنّ الاعتراف بهذا الحق من شأنه سدّ الفجوة الرقمية وتحقيق ما بات يُعرف في الأدبيات بـ"المساواة الرقمية"؛ تلك المساواة التي تضمن ما أُطلق عليه: "تكافؤ الفرص الرقمي" بين جميع المواطنين في الدولة الواحدة وفي كل دول العالم.

وتأتي أهمية التأكيد على المساواة الرقمية من جانبٍ، وتكافؤ الفرص الرقمي من جانبٍ آخر، من الإدراك أنّ التطوّر الرقمي المطّرد وبلوغه مرحلة الذكاء الاصطناعي لا يشكّل مجرّد تقنية مستجدّة في مسار التقنيات عمومًا، والتقنيات الرقمية خصوصًا، وإنّما يعتبره الباحثون قاعدةً ماديةً تقنيةً غايةً في التعقيد سوف تؤسّس لتأسيسٍ جديدٍ سيكون له تأثيره المباشر على مواطني الكوكب، وذلك على الأصعدة: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية. تأسيسٌ يُعيد تشكيل البنى الإنتاجية والسلطوية والعلائقية تشكيلًا جديدًا، ويجدّد النظر حول المواطَنة والمواطن في الزمن الرقمي، وذروته منظومة الذكاء الاصطناعي وما ستولّده من منظومات جيليّة ــ متلاحقة ــ أكثر تطورًا في المقبل من الأيام.  

مواطن الزمن الرقمي يواجه قوة "احتكارية" تملك البنية التحتية للبيانات والمعلومات والعقل الحسابي للعالم

إذن، تعدّ المواطَنة في الزمن الرقمي إحدى أهم الإشكاليّات التي شغلت بال المفكرين... لماذا؟ لأنّ المواطَنة التي تَنَبَّهَ إليها توماس همفري مارشال (1893ــــ 1981، وقد كان لي شرف تقديم أفكاره للقارئ العربي للمرة الأولى في تسعينيّات القرن الماضي)، عقب الحرب العالمية الثانية في إطار النظام الرأسمالي، كانت تدور حول ضمان حقوق المواطنين: المدنية والسياسية والاجتماعية، وكيفية تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين على اختلاف طبقاتهم ومكاناتهم، وذلك في مواجهة الطبقة المُهيمنة والسلطة الحاكمة.

بينما مواطن الزمن الرقمي يواجه ــ إضافةً إلى الطبقة والسلطة ــ قوةً ثالثةً "احتكاريةً" تتمثّل في الشركات التقنية العملاقة ذات رأس المال "السوبر تريليوني" التي تملك البنية التحتية للبيانات والمعلومات والعقل الحسابي للعالم. من هنا، انطلق الاهتمام الراهن حول ضمان حقّ "تكافؤ الفرص الرقمي" كحلقةٍ مواطنيةٍ/إنسانيةٍ نضاليةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ من حلقات تأمين تكافؤ الفرص. فمن واقع الخبرة التاريخية، مَثّلَ "تكافؤ الفرص" عمليًا، ركيزةً تضمن لكلّ مواطن قدرة متكافئة على الحضور الفاعل ــ بدرجةٍ أو بأخرى ــ في شتّى مجالات الحياة الإنسانية من خلال سدّ الفجوات ومعالجة الاختلالات المجتمعيّة بأبعادها المُتعدّدة. غير أنّ هذا المبدأ، الذي تأسّس زمن الثورة الصناعية وما بعدها، يواجه زمنًا جديدًا هو الزمن الرقمي؛ حيث تتشكّل "بُنى لا مساواة" من نوع جديد وفق الزمن الرقمي، تتمثّل في حرمان الأكثرية من: حقّ المعرفة، وحقّ البحث والوصول إلى المعلومات، وحقّ المشاركة والتأثير في ما يتعلق بحياته عبر الفعّاليات الرقمية، والأخطر الخضوع للهيمنة الخوارزمية التمييزية التي تقوم بها تلك القوة الثالثة أو الشركات الاحتكارية "الأخطبوطيّة" بفعل الانحياز في تأمين البيانات ــ لسببٍ أو لآخر ــ ما يعني تشغيلًا رقميًا غير عادلٍ يحول دون إعمال المساواة، ومن ثم وصول الخدمات وتوفير الفرص للمواطنين.

"المواطنة الرقمية" ضامنة لانخراط المواطنين انخراطًا ناشطًا وفاعلًا ومؤثّرًا في الفضاءات الرقمية الحيوية

في ضوء ما سبق، اجتهدَت الكثير من العقول في تطوير مفهوم العدالة بحيث يمتدّ مبدأ العدالة التوزيعيّة للثروات والعوائد القوميّة ــ الذي يتعثّر كثيرًا في الكثير من السياقات ـــ ليشمل العدالة في الوصول إلى المعرفة وتوزيعها وإتاحة الفرصة أمام ما يمكن أن نطلق عليه  "التمكين الرقمي"، الذي يجعل المواطن حاضرًا في البنية الرقمية ومنظوماتها الذكية المتلاحقة التطور مهما كان موقعه الطبقي، أو مكانته، أو لونه، أو عمره، أو ثقافته، أو دينه، أو جنسه، أو... وفي الأخير، يشارك جميع مواطني الكوكب ــ على اختلافاتهم ــ  في عملية تشكيل العالم التي باتت دائمة التجدّد ــ إذ يكاد يكون تجدّدها لحظيًّا ــ بفعل الخوارزميات أو الطرائق الرقمية للتعامل مع الحياة ومعضلاتها. هكذا تتحقّق "المواطنة الرقمية - Digital Citizenship" (يُشار إلى أنّنا عرّفنا القارئ العربي بهذا المصطلح مُبكرًا)؛ الضامنة لانخراط هؤلاء المواطنين انخراطًا ناشطًا وفاعلًا ومؤثّرًا في الفضاءات الرقمية الحيوية الجديدة التي تُشكّل "المجتمع الشبكي" (مفهوم طرحه عالم الاجتماع الإسباني الشهير مانويل كاستيلس ــ 83 عامًا)، الذي يعدّ قوام الزمن الرقمي الراهن والمجال الذي يتحرّك فيه "مواطنو الشبكة - Netizens".

إنّ الاهتمام بالمواطَنة الرقمية التي تقوم على العدالة الرقمية وتكافؤ الفرص الرقمي، من شأنها تأمين إعادة توزيع منافع "الأتمتة" على مواطني الكوكب شريطة توفير التمكين الرقمي للجميع، ما يعصم من اصطفاء القلّة للتمتّع بالزمن الرقمي ومنظوماته الذكية، وإقصاء الكثرة من هذا الحقّ... الأمر الذي سوف تكون له تداعيات كارثيّة، ربما أخطر من إقصاءات الأزمنة السابقة على العصر الرقمي، ما يستوجب التفكير فيما يمكن أن نُطلق عليه: "عقد اجتماعي تاريخي رقمي جديد مواطني عادل".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن