وجهات نظر

ميشيل عفلق فيلسوفًا

في نهاية الستينيات نشر المفكر التونسي هشام جعيط كتابه "الشخصية العربية" الذي تناول فيه من منظور تمجيدي احتفائي فلسفة ميشيل عفلق القومية. اعتبر جعيط أنّ عفلق هو المفكر والسياسي القومي العربي الوحيد الذي قدّم أطروحات نظرية رصينة في الهوية العربية وبناء الدولة الموحدة للأمة ضمن مسار تاريخي مجتمعي متماسك.

ميشيل عفلق فيلسوفًا

قبل عفلق، كان التيار القومي محض شعارات سياسية ومقولات إيديولوجية مجردة وغائمة، فتحوّل مع مؤسس حزب "البعث" إلى نسق نظري وفكري صلب ومتناسق. ومن المعروف أنّ عفلق تلقى دروس الفلسفة على يد برغسون، أهمّ فلاسفة فرنسا المعاصرين وتأثّر بتصوّره الحيوي الذي كان ردة فعل قوية ضدّ الأفكار الوضعية والتاريخانية السائدة في عصره.

بالنسبة لبرغسون، يتعيّن النظر إلى المجتمع كوحدة عضوية حيّة، بدلًا من اعتباره جسمًا سياسيًا ميكانيكيًا على الطريقة الليبرالية. كما أنّ برغسون تبنّى الخروج من المفهوم الرياضي الفيزيائي للزمن إلى التصوّر الحيوي الشعوري الذي يتجسّد في مفهوم الديمومة أي الزمن المعيش الثريّ بالمعنى والدلالة. السياسة تكون بهذا المنظور طاقة روحانية غرضها شدّ لحمة المجتمع ومنحه هوية شعورية موحّدة.

تلك هي المعاني التي نلمسها في فلسفة ميشيل عفلق، في تقديمه لرسالة "البعث" بكونها "تجديد القيم الروحية والأخلاقية للعروبة".

هل انتهى مشروع عفلق إلى الفشل بالنظر إلى مآلات تجارب الحكم التي استندت إليه؟

بالمقارنة مع الفكر القومي الأصلي لدى الجيل الأول من العروبيين (ساطع الحصري وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان...)، ندرك أنّ عفلق قد تجاوز التصوّر التاريخي الثقافي للهوية العربية في اتجاهين جديدين:

- التصوّر الوجودي الشخصاني للعروبة بالنظر إليها كروح ووعي، بدلًا من اختزالها في الكيان الاجتماعي الموضوعي للناطقين باللسان العربي. وفق هذا المنحى الفكري، لا يمكن لأطروحة العروبة أن تكون أساس مشروع سياسي مستقبلي إلا إذا غدت من مكونات الوعي المشترك الهادف إلى إحداث ما سماه عفلق "الانقلاب الحضاري الشامل". بهذا المعنى لا تكون الحرية مجرّد تحرّر سياسيّ بل هي رؤية كاملة للعالم ينتج عنها تأكيد فاعلية الإنسان العربي وقدرته على الإنجاز والتغيير.

- الربط العضوي بين المشروع الثقافي العربي ومتطلبات المجتمع العربي في العدالة والرقي الاجتماعي. واذا كان عفلق انتهى إلى الدعوة الصريحة إلى الاشتراكية كإحدى مكوّنات خطابه الأيديولوجي، إلا أنّ الأمر يتعلّق في الحقيقة بنمط من الاشتراكية الإنسانية المتجذّرة في الوعي الروحي والشعوري العربي وليست مجرد تقنية توزيعية للخيرات المادية والرمزية للأمة.

هل طُبقّت أفكار عفلق عمليًا بعد أن أصبح حزبه (حزب البعث العربي الاشتراكي) حاكمًا في أهمّ دولتين في المشرق العربي (العراق وسوريا)؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل انتهى مشروع عفلق إلى الفشل والإخفاق بالنظر إلى مآلات تجارب الحكم التي استندت إليه؟

لا أحد يجهل أنّ عفلق قضى سنوات عمره الأخيرة في باريس بعيدًا عن المشرق العربي، وقد اعتزل عمليًا منذ منتصف الستينيات العمل السياسي، رغم تشبّث الجناح العراقي من حزب "البعث" بزعامته التي كانت صورية وشكلية.

نبّه ضمنيًا إلى الأفق المسدود الذي وصل إليه المشروع القومي نتيجةً لغياب الربط التلازمي بين الديمقراطية والوحدة

حسب ما أخبرني المفكّر المغربيّ الراحل محمد عابد الجابري، كان عفلق يفكّر قبل رحيله سنة ١٩٨٩ في تجديد مشروعه الفكري، وقد أنشأ لهذا الغرض حلقة نقاشية كان الجابري نفسه من عناصرها الريادية.

ويبدو أنّ عفلق شأنه شأن كبار المفكرين والفلاسفة لم يكن راضيًا عن تطبيقات مشروعه السياسي والأيديولوجي، بل إنّ مقاربته الشعورية ونزعته التحرّرية الإنسانية لم تكونا لتتناسبا مع النظام الأحادي التسلّطي الذي انتهت إليه التجارب البعثية. كما أنه في كتاباته الأخيرة نبّه ضمنيًا إلى الأفق المسدود الذي وصل إليه المشروع القومي نتيجةً لغياب الربط التلازمي بين الديمقراطية والوحدة، بما يعني نقل مفهوم الحرية من الدلالة الشعورية القيمية إلى الدلالة الليبرالية المباشرة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن