ما أن سقط النظام في سوريا، حتى برزت على السطح مشروعات الشرق الأوسط ومخططات التقسيم التي خططت لها الدوائر الغربية الاستعمارية، ودبت فيها الحياة وأصبحت في نظر صناعها وداعميها قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ العملي، والخروج من عالم الأفكار والتمنيات إلى عالم الواقع، وذلك رغم صعوبة تحقيقها، ورغم ما منيت به بعض هذه المشروعات من فشل وإحباط.
ورغم أن هذه المشروعات إن للشرق الأوسط أو للتقسيم ليست جديدة على المشهد العربي والإقليمي؛ إلا أن انهيار النظام في سوريا مثل بالنسبة للدوائر الغربية والإسرائيلية فرصة نوعية لطرح هذه المشروعات مجددا، منذ الخمسينيات وحتى الآن تعددت وتنوعت هذه المشروعات وتخفت وراء مسميات مختلفة، بينما بقى الجوهر واحدا لم يعتره أي تغيير، هكذا كان مشروع أيزنهاور حول ملء الفراغ في المنطقة بعد اندحار الاستعمار البريطاني والفرنسي، وحلف بغداد، ومشروع بيريز للشرق الأوسط الجديد، الذي تلعب فيه إسرائيل الدور الرئيسي، ومشروع كوندوليزا رايس حول الشرق الأوسط الجديد والكبير ثم الحديث بعد ذلك ومنذ فترة قليلة عن حلف ناتو عربي والذي تم إجهاضه في المهد.
وبادئ ذي بدء تتضمن مثل هذه المشروعات حول الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، بعدا إيديولوجيا لا يخفى على أحد؛ ألا وهو المتمثل في المسمى ذاته، أي أن هذه المسميات تستهدف أولا وليس آخرا تغييب الرابطة العربية القائمة بين شعوب المنطقة وتجاهل هويتها الحضارية والثقافية، بل وأكثر من ذلك الطعن في وجود شعوب عربية تقطن هذا الإقليم لها ثقافتها وتاريخها الذي لا يمكن إنكاره والنظر إلى هذه الشعوب باعتبارها مجرد أقليات دينية وعرقية وقومية لا يتوافر لها مقومات مفهوم الشعب، بالمعنى الحديث.
وإذا تجاوزنا المسميات ودلالاتها الأيديولوجية فإن المضمون المُصرح به لمثل هذه المشروعات إن للشرق الأوسط أو للتقسيم يحمل ما هو أخطر؛ حيث إن الهدف ترسيخ مكانة ودور إسرائيل في الإقليم واعتباره حجر الزاوية من وجهة النظر الغربية، في الاستقرار والقبول العربي بوجودها كما هي بعنصريتها وتفوقها وطموحها للتوسع والسيطرة والتفوق، وهو ما يعني التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني في الدولة وتقرير المصير والقدس، والقبول النهائي بالتصور الإسرائيلي الغربي للتسوية، أي وجود الشعب الفلسطيني في كانتونات معزولة أكثر من الحكم الذاتي وأقل من الدولة ذات السيادة، وسيطرة إسرائيل على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية واعتبارها جزءا لايتجزأ من أرض إسرائيل الكاملة وفق الروايات التوراتية والخلاصية.
ومن ثم فإن الدافع الأساسي الغربي وراء مثل هذه المشروعات ينصرف أولا وأخيرا إلى تعزيز مصالح إسرائيل وضمان تفوقها وسيطرتها على مجريات الأمور، ووضع حد لوضع وجودها موضع التساؤل والرفض، والقبول بوجودها والتطبيع معها وقبول الأمر الواقع المفروض، بل واعتبار ذلك في نهاية المطاف أمرا منطقيا وعقلانيا. كما أن الهدف الرئيسي لمثل هذه المشروعات وأفكار التقسيم يتمثل إجمالا في فرض المعادلة الجديدة التي يريدها الغرب والصهيونية إن السياسية أو الدينية، ألا وهي المعادلة التي تتمثل في أن تكون إسرائيل في مكانة "المركز" وأن يكون العالم العربي في خانة "المحيط" بما يعنيه ذلك من علاقات تبعية جديدة بين إسرائيل والعالم العربي.
الهدف من وراء هذه المعادلة هو عزل الشعب الفلسطيني عن عمقه العربي والانفراد به وتجريده من الرأسمال المعنوي والمادي والسياسي الذي يمثله العمق العربي والذي يبدو الآن في أسوأ حالاته، لكنه قد يتغير في أي لحظة. مشروعات التقسيم والشرق الأوسط بمختلف مسمياته تتخفى وراء مسميات تبدو ظاهريا بريئة، ولكنها تحمل في عمقها ومضمونها جوهر هذه المشروعات؛ أي التقسيم والتفكيك والحؤول دون ظهور دول قوية ذات سيادة، تتمثل هذه المسميات البريئة في اللا مركزية والفيدرالية كما حدث حتى الآن في بعض الدول العربية وهذه العناوين الظاهرة تفضي واقعيا إلى الحؤول دون تحقيق الوحدة وتقنين التجزئة وإضعاف الدولة المركزية أو إنهائها.
مشروعات التقسيم بدأت تحت عنوان اللامركزية في الصومال بعد سقوط الدولة (نظام بري) ثم السودان "انفصال الجنوب" والعراق بعد دستور "بريمر" ثم ليبيا بعد العدوان الأطلسي بالتحالف مع جماعات إسلامية تنتمي إلى ما يمكن تسميته الإسلام المؤيد لحلف الأطلسي.
سوريا بعد سقوط نظام الأسد تتعرض لاحتمالات تقاسم وظيفي عدواني إسرائيلي برعاية أطلسية وغربية، من خلال آليات دستورية وجهوية ومناطقية قد يتم اعتمادها في المستقبل المنظور، لأن السيطرة على سوريا تعني السيطرة على قلب المنطقة مقابل النفوذ الروسي فى أوراسيا ونفوذ الصين في طريق الحرير. التنافس في المنطقة يدور بين المشروع التركي والمشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني، وبعد خروج إيران من سوريا ينحصر التنافس على التركي والإسرائيلي، وكلاهما يزعم أنه صاحب الدور الأكبر والأهم في إسقاط النظام السوري ويسعى للحصول على النصيب الأكبر من المغانم.
أما المشروع العربي فيكاد يكون غائبا تحت وطأة التجزئة والتفكك واختلاف التوجهات، ويكاد ينحصر وجود المشروع العربي في الأفكار والرؤى، ويفتقد وجود القاعدة التي تتبناه وتحتضنه وهو الدور المؤمل الذي يمكن لمصر أن تؤديه إن آجلا أو عاجلا؛ لأنها الوحيدة المؤهلة لملء هذا الفراغ بحكم ثقلها التاريخي والحضاري والسياسي والديموجرافي.
رغم زعم إسرائيل وعنجهيتها وتطلعها إلى تغيير المنطقة فإنها لا تزال غارقة في غزة وتتعثر في تحقيق أهدافها، كما أنها في مواجهة لبنان وحزب الله، لم تتمكن من القضاء على الحزب وقبلت بالقرار 1701 وهو المقبول لبنانيا ومن قبل حزب الله منذ عام 2006، وربما خلف المشهد الراهن تتشكل معالم ومعطيات جديدة تسهم في تشكيل مشهد مختلف.
(الأهرام المصرية)