الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

نحو اقتصاد عربي كلّي تكامُلي (2/2)الواقع والعوائق والطّموحات

في عالمِ اليَّوْم، لا يمكنُ لبلدٍ أنْ يَنزوِيَ في مُحيطِه الإقليمِي أو العَالمِي ويَزدهرَ بمعزلٍ عنْهُ، ولا سيّما البُلدان المُجاورة له التي يَتشاطَرُ معَها كثيرًا من الخَصائِص. في هذا السِّياق، يبدو الاقتصادُ العَربي ككِيانٍ يواجهُ تَناقضاتٍ حَادّةٍ بيْن الإمكاناتِ الهائِلة التي يَتمتَّعُ بِها والتَّحدِّيات الجَسيمة التي تُعيقُ انطلاقتَهُ نحوَ مستقبلٍ أكثرَ إشراقًا.

نحو اقتصاد عربي كلّي تكامُلي (2/2)
الواقع والعوائق والطّموحات

يتطلّب الحديثُ عن الاقتصادِ العَربي الكُلِّي، الذي يشملُ القطاعاتِ الإنتاجيَّةِ والخِدْمِيَّة على حدٍّ سَواء، الغوصَ في أعماقِ الوَاقعِ الرَّاهِن، وتشريحَ العوائقِ التي تقفُ حائلًا دون تحقيقِ التَّكامُلِ الاقتصادِي، واستكشافَ الطُّموحاتِ التي يمكنُ أن تكونَ مُحفِّزَةً لنَهضةٍ شَاملَة. وهكَذا، بعدما بَدأنَا بنظرةٍ شاملةٍ تُضِيءُ على الأبْعادِ المُختلفَةِ لهذا الاقتصاد، مع إبرازِ أهمِّيَةِ القِطاعاتِ الإنتاجيَّةِ باعتبارِها قاعدةً أساسيَّةً لتحقيقِ الاستدامةِ والتَّنميَة، لا يسعُّنا أنْ نقلّلَ من شأنِ القِطاعاتِ الخِدْمِيَّةِ الّتي تُشكِّل رَافدًا مُهمًّا لدَعمِ الاقتصَاد.

القطاعات الإنتاجيَّة تدعم النُّموَّ الاقتصادي المُستدام وتعزِّز قدرةَ الدُّول على مواجهة الأزمات الاقتصاديَّة

بعدَما تناوَلْنا شقَّ القِطاعاتِ الإنتاجيَّةِ من الاقتصادِ العَربي الكُلّي، ننظرُ في القِطاعاتِ الخِدْمِيَّةِ، التي تُؤدِّي دورًا مُهِمًّا لكن ثانَويًّا في رأيِنا في أي نهضةٍ اقتصاديَّة، يَلِي دورَ القِطاعاتِ الإنتاجيَّة.

تفُوقُ القِطاعاتُ الإنتاجيَّةُ القطاعاتِ الخِدْمِيَّةَ أهمِّيَّةً لأنَّها تُساهِم مباشرةً في تحقيقِ الاكتفاءِ الذَّاتي، وتوفيرِ المُنتجاتِ الأسَاسيَّة، وتَعزيزِ الصَّادِراتِ، وتقليلِ الاعتمادِ على الاسْتِيراد. كذلك، تُوَلِّدُ فُرَصَ عملٍ وَاسعَة، وتدعمُ النُّموَّ الاقتصادي المُستدام، وتعزِّزُ قدرةَ الدُّول على مواجهةِ الأزْماتِ الاقتصاديَّة، بعكسِ القِطاعاتِ الخِدْمِيَّة التي تعتمدُ في الأغلبِ على الطَّلبِ الدَّاخلي أو المُؤقَّت أو المَوْسِمي.

تُمَثِّلُ خدماتٌ مثل السِّياحَة، والتَّعاملاتِ المَاليَّة، والتِّجارة، والتِّكنولوجيا الرَّقميَّة رَافدًا مُهمًّا لدعمِ الاقتصاداتِ العَربيَّة. تمتلكُ السِّياحةُ على وجهِ الخُصوصِ إمكاناتٍ هائلة إذا استُغِلَّت في الشَّكلِ الأَمْثَل. من نافلِ القوْل إنَّ البُلدانَ العربيَّةَ غَنيَّة بالمَواقعِ التَّاريخيَّةِ والثَّقافيَّةِ والطَّبيعيَّةِ التي يُمكنُ أن تَجعلَها وجهاتٍ سِياحيَّةً عَالميَّة. ومع ذلك، يقفُ عدمُ الاستقرارِ السِّياسِي وضعفُ البنيَة التَّحتيَّة السِّياحيَّة حجرَ عثرةٍ أساسيًّا أمامَ تحقيقِ هذه الإمكانات.

تُتيح الثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعَة فُرَصًا غير مسبوقة للبُلدانِ العربيَّة للانخراطِ في الاقتصادِ الرَّقمي

أمَّا قطاع الخدماتِ المَاليَّة في العالمِ العَربي فيَنْمُو بسرعَةٍ مع تَبنِّي التِّكنولوجيا والشُّمولِ المَالي، لكنَّه يواجهُ عقباتٍ كضعفِ البنيَة التَّحتيَّةِ الرَّقميَّة، والقُيودِ التَّنظيميَّة، وقِلَّةِ الثَّقافةِ المَاليَّة لدى الرَّأيِ العَام. ويُعيقُ التَّفاوُت بين البُلدان التَّكامُلَ الإقليمي، فيما تحتاجُ المُؤسَّساتُ إلى تعزيزِ الثِّقة ومُواكبةِ الابتكارِ لتَجاوُزِ هذه التَّحدَّيات ودعمِ التَّنميَةِ الاقتصاديَّة. وفي ما يَتعلّق بالتِّكنولوجيا الرَّقْمِيَّة، تُتيحُ الثَّورةُ الصِّناعيَّة الرَّابعَة الجَاريَة، كما تشيعُ تَسْمِيَتُها، فُرَصًا غيْر مسبوقةٍ للبُلدانِ العربيَّةِ للانخراطِ في الاقتصادِ الرَّقمي. ويمثّل الاستثمارُ في التَّعليمِ الرَّقمِي، وتطويرِ البِنيَةِ التّحتيَّةِ التِّكنولوجيَّة، ودعمِ الشَّركاتِ النَّاشِئَة خطواتٍ أسَاسيَّةً لتحقيقِ التَّحوُّلِ الرَّقمِي وتعزيزِ الابتِكار.

هكذا يَتبيَّنُ أنَّ تحقيقَ التَّكاملِ الاقتصَادي العَربي يتطلّبُ إرادةً سياسيَّةً قويَّةً، واستثماراتٍ ضخمةً في البِنيةِ التَّحتيَّة، وتعزيز التَّعاوُنِ الإقليمي. ويُمكِنُ لمشاريع الرَّبطِ الإقليمِي مِثْلَ شَبكاتِ النَّقلِ البَرِّيَّة والبَحريَّة أن تُساهمَ في تعزيزِ التِّجارةِ البيْنيَّةِ وتسهيلِ حركةِ البَشَرِ والبَضائعِ والخِدمَاتِ عبْر الحُدود. كذلك، من شأنِ تنسيقِ السِّياساتِ الاقتصاديَّةِ والتَّشريعيَّةِ بين البلدان أن يزيلَ العَقباتِ أمامَ الاستثمارِ والتجارةِ.

لا شكَّ في أن الطَّريقَ نحو بناءِ اقتصادٍ عَربي كُلّي تَكامُلي مَليء بالتَّحدِّيَات، لكن الفُرصَ لا تزالُ قائمةً لتحقيقِ هذا الهدَف. إنَّ بناءَ رُؤيةٍ اقتصاديَّةٍ مُشتركةٍ تستندُ إلى استغلالِ المَوارِدِ المُشتركةِ وتَعزيزِ التَّكامُلِ الإقْليمِي يمكنُ أن يكونَ عاملًا رَئيسيًّا في نهضةٍ شاملةٍ تَعودُ بالنَّفعِ على شعوبِ المِنطقةِ كلّها.

وفي النِّهايةِ، لا ينبغي أن يكونَ تحقيق التَّنميةِ الاقتصاديَّةِ هدفًا بحدِّ ذاتِه، بل وسيلة لتَحقيقِ العدالةِ الاجتماعيَّةِ والارتقاءِ بمستوى حياةِ الإنسانِ العربي. وبينما تلوحُ في الأفُقِ تحدِّياتٌّ كبيرَة، يمكن للإرادةِ والعملِ المُشتركِ أنْ يجعلا من الحُلمِ حَقيقَة.

الرَّكيزة الأساسيَّة تكمُن في الاستثمار في الإنسان المُحرِّك الأساسي لكلِّ تنميَة

يَتطلّبُ التَّحوُّل نحو اقتصادٍ عَربِي تَكامُلِي أكثرَ من مجرَّد سياساتٍ حكوميَّة؛ يجب كذلك أن توجِّهَه رؤيةٌ مُجتمعيَّة شَامِلَة تُشرِكُ فِئاتِ المُجتمع كلّها. فالتَّحدِّياتُ الكبيرة التي تُواجهُ المِنطقة، من تَغيُّراتٍ مُناخيَّةٍ مُتسارعَةٍ وتَحدِّياتٍ تِكنولوجيَّة إلى ارتفاعِ مُعدَّلاتِ الفَقْرِ والبَطالةِ، تتطلّبُ استِجاباتٍ جَريئةً ومُبتكرَةً، ذلك أنَّ التَّحوُّلاتِ الاقتصاديَّة العالميَّة تفرضُ على البُلدانِ العربيَّة أن تكونَ جزءًا من هذه التَّغيُّرات، لا أن تبقى في موقعِ المُتلقّي أو المتأخِّر عن الرَّكب.

وإذا نظرنا إلى التَّجارِب الدَّوليَّةِ النَّاجحةِ في تحقيقِ التَّكامُلِ الاقتصادي، نجدُ أنَّ الرَّكيزةَ الأساسيَّةَ تكمُنُ في الاستثمارِ في الإنسان، المُحرِّك الأساسي لكلِّ تَنميَة. يجبُ أن يكونَ التَّعليمُ، والبحثُ العِلمي، وتحفيزُ الإبداعِ على رأسِ الأولويّات. لا يمكنُ لأي بلدٍ أن يحقّقَ نهضةً اقتصاديَّةً من دونِ أن تتوفّرَ له قَاعِدَة صَلْبَة من الكفاءاتِ البشريَّةِ المُدرَّبةِ والمُبْدِعَة. لذلك، يجبُ أن تستثمرَ البُلدانُ العربيَّةُ في تطويرِ أنظمتِها التَّعليميَّةِ لتواكبَ العصرَ الرَّقمي، مع التَّركيزِ على تَنميةِ المَهاراتِ الّتي تحتاجُ إليْها سوقُ العملِ الحَديثة.

من نافلِ القولِ إنّ القطاعَ الخاصّ يُؤدِّي دورًا حَاسمًا في تحقيقِ هذه الطُّموحَات. يجبُ أن تَتحوَّل الدُّولُ من دورِها التَّقليدي كجهةِ توظيفٍ رئيسيّةٍ للعَمالةِ إلى عاملٍ مُحفِّزٍ للقطاعِ الخاصّ، مع توفيرِ البيئةِ المُناسبةِ للاستثمارِ والابتكار. ومن شأنِ إزالةِ العَقباتِ البيروقراطيَّةِ وتبسيطِ الإجراءاتِ الإداريَّة أن يساهِما في جذْبِ مزيدٍ من الاستثماراتِ الأجنبيَّة والمحليَّة، بما يعزِّزُ النُّمُوَّ الاقتصادي ويوفِّر فرصَ عملٍ جديدة.

بناء اقتصاد عربي كُلِّي تكامُلي ضرورة مُلِحَّة تَفرضُها التحدِّيات والفُرص التي تواجه المنطقة

على الجانبِ الآخر، يجب أن يكونَ تعزيزُ التَّعاونِ الإقليمي في صُلْبِ أي استراتيجيَّةٍ للتَّكامُل، ذلك أنَّ بناءَ شراكاتٍ اقتصاديَّة بين البُلدانِ العربيَّةِ يمكنُ أن يُضاعِفَ من الإمكاناتِ المُتاحةِ لكلِّ بلدٍ، ويؤسِّسَ سوقًا إقليميَّةً قادرةً على المُنافسةِ عالميًّا. ومن هنا، سيترُكُ توحيدُ الجُهودِ في مجالاتٍ مثل الزِّراعة، والطّاقة، والنَّقل، والتِّكنولوجيا، أثرًا إيجابيًّا كبيرًا في الاقتصاداتِ الوطنيَّة.

في الختامِ، ليس بناء اقتصادٍ عربي كُلِّي تكامُلي مُجَرَّد طموحٍ مُستقبلي، بل هو كذلك ضرورة مُلِحَّة تَفرضُها التحدِّياتُ والفُرصُ التي تواجهُ المِنطقة. يتطلّبُ تحقيقُ هذا الهدفِ تَضَافُرَ الجهودِ بين الحكوماتِ، والقِطاعِ الخاصّ، والمُجتمعِ المَدني، بالإضافةِ إلى رؤيةٍ واضحةٍ وبعيدةِ الأجَل تستندُ إلى استِغلالِ المَوارِدِ في شكلٍ مُستدامٍ وتحقيقِ العدالةِ الاجتماعيَّة.

فقط مِن خلالِ هذه المُقاربةِ الشَّاملةِ يُمكنُ للمنطقةِ العَربيَّةِ أن تُحقّقَ نهضةً اقتصاديَّةً حقيقيَّةً تُعزّزُ مَكانتَها على السَّاحةِ الدَّوليَّةِ وتُوَفِّرُ حياةً كريمةً لمُواطنِيها.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن