بدأ الاتحاد الأوروبّي كترتيبٍ أمني هدفه المساعدة على إنهاء الحرب في أوروبا من خلال ربط "الفحْم والصّلب"، وهما الصّناعتان الضّروريتان لصناعة الحرب. ولكن مع انحسارِ شبح الحرب، أصبح الاتحاد الأوروبي مرغوبًا فيه بسبب فوائدِه الاقتصادية، إذ إنّ التّكاملَ انتقل على مراحل من منطقة التجارة الحرّة إلى الاتحاد الجمركي إلى السّوق المشتركة، وأخيرًا الاتحاد الاقتصادي والنّقدي.
لكي تنضمَّ دولة ما إلى الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون لديها حكومة ديموقراطية واقتصاد سوقٍ حرّ
ولكن هذا ليس كل شيء. ففي ثمانينيّات القرن الماضي، كان الهدفُ من انضمام إسبانيا والبرتغال واليونان إلى الاتحاد الأوروبي هو التخلّص من الماضي الاستبدادي لهذه الدول، ودعم أوراق اعتمادها الدّيموقراطية. وهدفت عضويّة دول أوروبا الشرقيّة ودول البلطيق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تعزيز أوروبا الشرقيّة بعيدًا عن ماضيها السوفياتي، ومنح هذه الدول الأمن والديموقراطية والحكْم الرّشيد واقتصاد السّوق. أخيرًا وليس آخرًا، كان الاتحاد الأوروبي بمثابةِ كتلةٍ اقتصاديّةٍ ضخمةٍ على قدم المساواة مع كتلة أميركا الشّمالية (الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك)، وبالطبع الثّقل الصّيني الصاعد.
على القدر عينه من الأهمّية، استندت معاهدات الاتحاد الأوروبي إلى معيارٍ واحدٍ ومبدأَيْن. لكي تنضمَّ دولة ما إلى الاتحاد الأوروبي، يجب أن تَفِيَ بالمتطلبات الاقتصادية والسياسية المعروفة باسم "معايير كوبنهاغن" التي تتطلّب أن يكون لدى الدولة المرشحة حكومة ديموقراطية واقتصاد سوقٍ حرّ، إلى جانب الحرّيات والمؤسَّسات المقابلة، واحترام سيادة القانون. وعلى هذا النحو، يتألف الاتحاد الأوروبّي اليوم من 27 جمهورية - منها 21 جمهورية برلمانية - و6 مَلَكيّات دستورية.
توجد عدّة أشكال مختلفة من التكامل الوثيق داخل الإطار العادي للاتحاد الأوروبي
بالإضافة إلى ذلك، يُعرّف الاتحاد الأوروبي بمبدأ إسناد السّلطات، حيث يتمتع الاتّحاد بالاختصاص القانوني في تلك المجالات التي اختارت الدول الأعضاء نقل السّلطات فيها إلى المستوى الأوروبي، وهي مُلْزِمَة قانونًا وسامية على جميع الدول الأعضاء. وثمّة مبدأ تأسيسيٍ آخرٍ للاتحاد هو مبدأ التبعيّة، بمعنى أنّ القراراتِ تُتّخذ بشكلٍ جماعي إذا لم يكن من الممكن واقعيًا اتخاذها بشكل فردي، وفي حال عدم إمكانيّة حلّ المشاكل بشكلٍ أكثر كفاءة على المستوى الوطني فإنّ تصرّف الاتحاد الأوروبي سيكون ضروريًا لتحقيق قيمةٍ مضافة.
ومن السّمات المهمة الأخرى للاتحاد الأوروبّي التّكامل متعدِّد السرعات. ويعني ذلك أنّ التّكامل في الاتحاد الأوروبّي ليس مُتماثلًا دائمًا، حيث توجد عدّة أشكال مختلفة من التكامل الوثيق داخل الإطار العادي للاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، يمكنُ لبعض الدول أن تمضيَ قُدُمًا في الاندماجِ قبل الدول الرافضة؛ بينما يمكن لدولٍ أخرى استخدام هياكل الاتحاد الأوروبي للتقدّم في مجالٍ لا ترغب جميع الدول في المشاركة فيه. بل إنّ هناك حالاتٍ حصلت فيها الدول على خيار الانسحاب في المعاهدات التأسيسيّة من المشاركة في مجالاتٍ سياسيةٍ معيّنة. ولعلّ خير مثالٍ على عملية التّكامل متعدّدة المستويات هذه، هو اليورو. فهناك حاليًا 20 دولة اعتمدت اليورو، و7 دول لم تعتمدْه، مما يجعل الاتحاد الأوروبّي يضم 8 عملات[1]. وعليه، فإضافةً إلى اليورو هناك الدّول التي لم تَخْتَرْ الانضمام (الدنمارك والسويد)، أو قررت عدم المشاركة حاليًا (بولندا والتشيك)، أو لم تتأهل بعد (بلغاريا ورومانيا).
في ما يتعلق بـ"هيكل الحكم"، يتكوّن الاتحاد الأوروبي من:
أولًا، "حكومة الاتحاد الأوروبي"، وهي في الواقع المفوّضية الأوروبية، بوصفها هيئة تنفيذية مستقلة تُعيِّن قيادتها الدول الأعضاء، ولكنّها مسؤولة سياسيًا أمام البرلمان الأوروبي.
ثانيًا، البرلمان الأوروبّي، وهو المؤسّسة الوحيدة المنتخبة ديموقراطيًّا وبشكلٍ مباشرٍ في الاتحاد الأوروبّي، وبالتالي فهو الأكثر حساسية للرّأي العام. يتألف من 704 أعضاء يتمّ انتخابهم من قبل المواطنين الأوروبيين كل خمس سنوات.
ثالثًا، "الرئاسة" التي يستحوذ عليها المجلس الأوروبي الذي يمثّل الحكومات الوطنيّة للدول الأعضاء. ويوافق المجلس الأوروبي على القوانين التي يقرّها البرلمان، وينسِّق السياسة الاقتصادية العامة، ويضعُ السياسات الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، تتولّى إحدى الدول الأعضاء رئاسة المجلس كلّ ستّة أشهر؛ مما يجعلها القوّة الدافعة في عملية صنع القرار التّشريعي والسّياسي في الاتحاد الأوروبي.
قد يبدو الأمر وكأنّ الاتحاد الأوروبي قد أصبح "إمبراطوريةً" من الاقتصادات والدول الليبيرالية، ولكنّ الحقيقة هي أنّ مشروع الاتحاد الأوروبّي هو إنجازٌ رائعٌ من حيث آثارِه وامتداده ومتانته. فلا عجب إذن من حصول الاتحاد الأوروبي على "جائزة نوبل للسلام عام 2012" لمساهمتِه في النّهوض بالسلام والمصالحة والديموقراطية وحقوق الإنسان والنّمو الاقتصادي والرّفاهية. ولكن هذه ليست القصّة كلها، لأنّ الاتحاد الأوروبي كان أيضًا عرضةً للانتكاسات، كما سنوضح بإيجازٍ أدناه.
من النّاحية الاقتصادية، تشير التّقديرات إلى أن الاتحاد الأوروبّي قد أضاف 0.8% في النّموّ التراكمي الإجمالي، وكان مفيدًا بشكلٍ خاصٍّ لدول أوروبا الشرقية ودول البلطيق التي زاد نصيب الفرد من النّاتج المحلي الإجمالي فيها بأكثر من الثلث[2]. بعبارةٍ أخرى، كان الاتحاد الأوروبّي أداةً للتقارب بين الدول الأوروبية الغنية وغير الغنية، وهذا ما يفسّر انخفاض "معامل جيني" في الاتحاد الأوروبّي إلى نسبة 29% (ملاحظة: "معامل جيني" بنسبة 0% يعني المساواة الكاملة في الدّخل؛ بينما المعامل بنسبة 100% يعني عدم المساواة الكاملة في الدّخل). ولكن فشل الاتحاد الأوروبّي في تحسين الكفاءة بشكلٍ مطّردٍ أو إنتاجية عوامل الإنتاج[3]، حيث يبدو أنّ إنتاجية عوامل الإنتاج قد توقّفت عن النّمو منذ عام 2000 تقريبًا. وهذا يفسّر تخلّف الاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، والسببُ على الأرجح هو التنظيم المُفرط.
نجح الاتحاد الأوروبّي بدمجِ التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر داخل دوله وفشل بدمْج أسواق رأس المال والأسواق المالية
بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرَّغم من أنّ اليورو هو ثاني أكبر عملةٍ احتياطيّة وثاني أكبر عملةٍ متداولة في العالّم، إلّا أنّه يبدو أنّه لم يُضِفْ فوائد ملحوظةً للبلدان التي اعتمدته، وذلك لأنه حرمها من الاستخدام الكامل للسياسة النّقدية، بخاصّة وأنّ السياسة المالية كانت مقيّدة أيضًا بالحدود المفروضة على نسبة الدّيْن إلى النّاتج المحلي الإجمالي ونسبة العجز إلى النّاتج المحلي الإجمالي بحيث لا تتجاوز 60% و3% على التوالي. إضافةً إلى ذلك، نجح الاتحاد الأوروبّي في دمجِ التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر داخل دوله، حيث وصلت تدفّقاتهما البيْنية إلى 70% و50% على التّوالي، لكنه فشل في دمْج أسواق رأس المال والأسواق المالية، حيث لا تزال أسواق رأس المال في الاتحاد الأوروبي منفصلةً إلى حدٍّ كبير، وليس أدلّ على ذلك من أنّ أكبر مركزَيْن ماليَيْن في أوروبا - لندن وزيورخ - يقعان خارج الاتحاد الأوروبي.
من حيث التّماسك، لا يزال الاتحاد الأوروبي مشروعًا غير مكتمل. ويتّضح ذلك بشكلٍ خاص في قضايا الدفاع والسياسة الخارجيّة حيث يتمّ نقل قدْرٍ أقل من السيادة ويتمّ التعامل مع القضايا بالإجماع والتعاون، وليس بالأغلبيّة المؤهِّلة[4]. كما أنّ مسألةَ ما إذا كان قانون الاتحاد الأوروبي أسمى من قانون الدولة يخضع لبعض النّقاش، فالمعاهدات لا تعطي حُكْمًا في هذا الشأن، على الرَّغم من أنّ أحكام المحاكم قد أثبتت أسبقيّة قانون الاتحاد الأوروبي على القانون الوطني. ولكنّ هذا غير معترفٍ به في جميع دول الاتحاد الأوروبي. وقد وصل كلّ ذلك إلى ذروته مع الغزو الرّوسي لأوكرانيا حيث اختلفت دول الاتحاد الأوروبي حول الإدانة والعقوبات وإنهاء التجارة في إمداداتِ الطّاقة الروسية أو الاعتماد عليها.
المصالح الوطنية هي التي تحدِّدُ السياسة الأوروبية أكثر من المصلحة العامة على مستوى الاتحاد الأوروبي
أخيرًا، وربما الأهم، في ما يتعلّق بالهُويّة، لا يزال الاتحاد الأوروبي يترك الكثير مما هو مرغوب فيه. فعلى الرَّغم من مستويات الاندماج العميقة، وعلى عكس الدول الاتحادية، هناك ضعف في الهُوية الأوروبية المشتركة. وعلى الرَّغم من أنّ الناس يصوِّتون مباشرةً لأعضاء البرلمان الأوروبي وأنّ حوالى 30% من القوانين الوطنية مُسْتَمَدَّة من قانون الاتحاد الأوروبي[5]، إلّا أنّ المواطنين الأوروبيين لا يزالون يشعرون بأنّهم بعيدون عن الاتحاد الأوروبّي. لذلك، عند تحليل السياسة الأوروبية، يجب على المرء أن يضعَ في اعتباره أنّ المصالح الوطنية هي التي تحدِّدُها أكثر من المصلحة العامة على مستوى الاتحاد الأوروبي.
[1] دول منطقة اليورو هي: النمسا، بلجيكا، كرواتيا، قبرص، إستونيا، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، اليونان، إيرلندا، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، لوكسمبورغ، مالطا، هولندا، البرتغال، سلوفاكيا، سلوفينيا، وإسبانيا. أما العملات السبع الأخرى المستخدمة في دول الاتحاد الأوروبّي فهي: الليف البلغاري، والكورونا التشيكية، والكرونة الدنماركية، والفورنت المجري، والزلوتي البولندي، والليو الروماني، والكرونة السويدية.
[2] ساعد في ذلك أموال التماسك المقدّمة من البلدان "التي لا تملك المال" داخل الاتحاد الأوروبي.
[3] نمو إنتاجية عوامل الإنتاج هو النمو في الدخل الذي يُعزى إلى زيادة الكفاءة أو التطور التكنولوجي، بعد حساب نمو العمالة ورأس المال.
[4] الأغلبية المؤهّلة تُعبَّر عنها عادةً بنسبة 55% من الدول الأعضاء، والتي تضم 65% من سكان الاتحاد الأوروبي.
[5] يمتلك الاتحاد الأوروبي اختصاصا حصريا في ما يتعلق بالسياسات المرتبطة بسوق الاتحاد الأوروبي، وتشمل: الجمارك، القواعد المتعلقة بعمل السوق المشتركة، السياسة النقدية للدول التي تستخدم اليورو، والاتفاقيات التجارية.
كما يشترك الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في اختصاص السياسات التالية: التوظيف والشؤون الاجتماعية، التماسك الاقتصادي والاجتماعي والإقليمي، الزراعة، الصيد البحري، البيئة، حماية المستهلك، النقل، الطاقة، الأمن والعدالة، الأبحاث، والفضاء.
أما السياسات التي تندرج ضمن الاختصاص الحصري للدول الأعضاء (والتي يمكن أن يدعمها الاتحاد الأوروبي من دون أن ينظمها بشكل مباشر) فهي تشمل: الصحة العامة، الصناعة، الثقافة، السياحة، التعليم والتدريب، الشباب، والرياضة.
(خاص "عروبة 22")