لا يفوت الرئيس الفرنسي مناسبة لتأكيد وقوف بلاده إلى جانب لبنان. وتبدو اليوم الفرصة متاحة اكثر من اي وقت لتحديد التأكيد على هذا الموقف الذي عبر عنه بزيارته إلى لبنان، الثالثة في غضون خمسة أعوام، منذ انفجار مرفأ بيروت.
وبقطع النظر عن الاسباب والحيثيات التي تدفع الرئيس ايمانويل ماكرون لذلك، وهو الذي يحرص على تلقف النتائج الايجابية التي أفضى اليها خروج لبنان من المحور الإيراني ودخوله العصر الاميركي في المنطقة، فإن زيارته الخاطفة التي بدأها من الجميزة بعد لقائه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي جاءت لتؤكد على حرص فرنسا على الروابط التاريخية بين البلدين، والأهمية الاستراتيجية للبنان في السياسة الخارجية لباريس في بيروت لاسباب جيوسياسية.
فـ"الأم الحنون" كما يحلو لبعض اللبنانيين ان يسمونها، كانت البلد الوحيد الذي لم يمل من طرح المبادرات الرامية إلى اخراج البلد من أزمته، من المبادرة الفرنسية التي اطلقها ماكرون وكلف بها وزير الخارجية السابق جان ايف لودريان للبحث عن مخرج لأزمة الرئاسة، إلى الورقة الفرنسية التي تلاقت في بعض جوانبها مع الورقة الاميركية وكان هدفها الدفع نحو تطبيق قرار مجلس الامن 1701، وصولاً إلى الزيارات المتعددة لوزراء وموفدين فرنسيين إلى بيروت في مسعى لخرق الحصار الاسرائيلي على لبنان إبان حرب الشهرين، وصولاً إلى اتفاق وقف النار.
وتأتي زيارة ماكرون الآن لتأكيد دور فرنسا في متابعة تنفيذ هذا الاتفاق عبر ادراجه على جدول الزيارة لقاء مع المسؤولين العسكريين الفرنسي والاميركي في اللجنة المكلفة متابعة آلية تنفيذ الاتفاق. أما في العنوان الثاني لزيارته فيكمن في إبداء الاستعداد للتعاون في مجال حشد الدعم الدولي لمشروع اعادة الإعمار. وربما سيكون ذلك اما من خلال الصندوق الائتماني الذي تعتزم الحكومة إنشاءه بالتعاون مع البنك الدولي من اجل اعادة اعمار الجنوب، على ما اعلن ميقاتي نفسه، علماً ان هكذا صندوق سيكون على طاولة الحكومة المقبلة.
لم تتأخر فرنسا يوماً عن لعب دور الراعي للبنان، فاستضافت عاصمتها على مر اكثر من ثلاثة عقود سلسلة من مؤتمرات الدعم التي تجاوز بعدها الدعم السياسي ليشمل ترجمة عملية عبر دعم مالي واقتصادي ساهمت فيه الدول والمنظمات المانحة، وليس آخرها المؤتمر المنعقد في باريس في تشرين الاول الفائت لدعم الشعب اللبناني على مواجهة تداعيات الحرب الاسرائيلية.
وعليه، لن تكون المرة الاولى التي تسارع فيها باريس إلى استضافة مؤتمر دعم جديد للبنان مع انبثاق سلطة دستورية جديدة على رأس الجمهورية وعلى طريق تشكيل حكومة جديدة تتولى هكذا امر. وهو اعلن ذلك صراحة من قصر بعبدا عندما اكد ان بلاده ستحشد الدعم الدولي لعقد مؤتمر لاعادة الإعمار.
من مؤتمرات "باريس 1" و"باريس 2" و"باريس 3" إلى مؤتمر "سيدر" مروراً بمؤتمر "سان كلو"، وصولاً الى مؤتمر دعم الجيش، والمؤتمر الدولي لدعم الشعب اللبناني بعد عام على انفجار مرفأ بيروت، وقد عقد عبر تقنية الفيديو، ومؤتمر دعم اللبنانيين الأخير، ورغم الجدية في التحضير وحشد الدول والمؤسسات المانحة لهذه المؤتمرات، إلا أنها غالبا ما كانت تصطدم عند التنفيذ بألغام الحسابات السياسية الداخلية المعطلة لأي جهود لإخراج لبنان من أزمته من خلال رعاية دولية.
علماً ان المؤتمر الأخير خرق المسار الدولي وشكل اول مبادرة تطلقها فرنسا على المستوى العربي او الدولي وسط تحفظ لافت في تعامل الاسرة الدولية مع الوضع اللبناني. اذ باستثناء الدعم الإنساني والإغاثية التي قدمته او ودعت به بعض الدول الصديقة للبنان، لم يتبلور بعد اي مسار ستسلكه البلاد في اعادة اعمار المناطق المهدمة تمهيداً لمعالجة ازمة النازحين الناجمة عنها.
وعلى أهمية الدعم السياسي الذي يحفظ مكانة لبنان على الخارطة الدولية، إلا ان الاهمية الأكبر تكمن في تسييل هذا الدعم نظراً إلى اهمية المساعدات المالية حجماً وتوزيعاً على القطاعات الاقتصادية وليس فقط الإنسانية. فالمؤتمر الاخير لم يسلك طريقه بعد نحو التنفيذ ان بالنسبة إلى مبلغ 800 مليون دولار للبنانيين والقطاعات الإنسانية او مبلغ 200 مليوناً مخصصة للجيش.
وهذا الواقع ينسحب على المؤتمرات السابقة، التي واجه تنفيذها وتسييل أموالها عقبات عدة تعود إلى منطق الزبائنية والمحاصصة او البيروقراطية او الحسابات السياسية الرامية إلى تفشيل تلك المؤتمرات، فكانت الاموال تصل تباعاً وبصعوبة بحيث تفقد جزءاً من جدواها.
(النهار اللبنانية)