على الرَّغم من أنَّ الهدفَ الرئيسي وراء إنشاءِ مثل تلك المُدن، يستهدف بالأساسِ اللّحاق بعصرِ ما بعد الحداثة، عبر تحْسين جودَةِ الحياة، واستبدال استراتيجيةِ إدارةِ الفقْر التي ظلَّت سائدةً لعقودٍ في الكثير من بلدان العالم العربي، بتحقيق قفزاتٍ واسعةٍ نحو المُستقبل، إلّا أنّه لا يخلو من مخاطرَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ جمّةٍ، من شأنِها أن تُكَرِّسَ لظهورِ طَوْرٍ جديدٍ من أطوار الطبقيّة المتوحِّشة، في العديد من المُجتمعات العربية التي باتت تنظر إلى تلك المُدن، وعلى رأسِها العاصمة الإدارية الجديدة في مِصر، باعتبارِها "كانتوناتٍ" ضخمةً للأثرياء، يدفع ثمنها الغالبيّة العُظمى من الفقراء، سواء عبر لجوءِ حكوماتِهم للاقتراض من الخارج لبناء تِلك المُدن التي لن يقدِروا على العيش فيها، أو من خلال فرضِ مزيدٍ من الضّرائب على كاهِلهم، ومن ثمَّ خفْضِ الدولةِ لاستثماراتِها في العديد من الخدْمات الاجتماعية وتخفيضِ الدّعم.
تَتَمَدَّدُ العاصمة الادارية الجديدة في مِصر، على تخومِ القاهرة، فتبْدو للنّاظرين على ما تحمله من مظاهرِ رفاهيةٍ وبَذْخٍ، أقرب ما تكون إلى مدينةٍ أسطوريّةٍ، شُيِّدَت في قلبِ صحراءٍ كانت حتّى وقتٍ قريبٍ قاحلةً، قبل أن تمتدَّ إليها يدُ العمران، فتُحوّلها الى ما يشبه منتجعًا سياحيًا ضخمًا، لا يقدِرُ على سُكناه أو مجرّد الاقترابِ من بوّاباته الضّخمة، سوى تِلك الطّبقةِ التي تملكُ المالَ والنّفوذَ، ويُصَنِّفُ الخبراءُ العاصمة المِصرية الجديدة، باعتبارِها واحدةً من أحدثِ مدنِ الجيلِ الرّابع، وهي تتميّزُ عن غيرِها من المدن العربية الجديدة الموجودة فى المملكة العربية السّعودية والإمارات، بمساحتِها الشّاسعة التي تبلغ أكثر من أربعةِ أضعافِ مساحةِ العاصمة الأميركية واشنطن، إلى جانبِ ما تضمُّه من مظاهرِ بذخٍ مفْرطة، تتجلّى فى برْجها الأيقوني وهرمِها الكريستالي، وقصرِ الحُكْمِ الضَّخم الذي شُيِّدَ على شكلِ قرْصِ الشّمس، وبلغت تكلفةُ بنائِه نحو 59 مليار دولار، وهو رقمٌ كان سببًا في إثارةِ استفزازِ قطاعاتٍ واسعةٍ من المصريّين، الذين يقولون من دونِ مُواربةٍ إنَّ مِصرَ تورَّطت كثيرًا في اقتراضِ العديدِ من المليارات من الخارج لبناءِ مدينةٍ ضخمةٍ للأثْرياء، لن يكون باستطاعتِهم أن يسْكنوها أو مجرّد الاقترابِ منها، على الرَّغم من أنّها شُيِّدَت بأموالِ الضّرائب التي يدفعها دائمًا أبناء الطّبقةِ المتوسّطة، وهو ما تحرصُ الحكومة المصريّة على نَفْيِهِ في غير مناسبةٍ، مؤكدةً أنّ نفقاتِ بناءِ العاصمةِ الجديدةِ، يتمّ تمويلها من خلال مستثمرين أجانِب ومحليّين ومن خلال بيْع الأراضي، من دون الاقترابِ من الموازنةِ العامّة للدولة.
تُجَسِّدُ ناطحة السّحاب الصّينية الصّنع التي يُطْلَقُ عليها "البرْج الأيقوني"، والتي يصل ارتفاعُها إلى نحو 1293 قَدَمًا، فلسفةَ بناءِ العاصمة الادارية الجديدة في مصر، وهي الفلسفةُ التي تحكُم بناءَ العديدِ من المُدن العربيّة التي تُصَنَّفُ بـ"الذّكية"، وتعكسُها العديد من الرّسومات الحاسوبيّة، التي ترسم صورةً مذهلةً لتِلك المدن، بشوارعِها الواسعةِ، وخطوطِ ترامِها الحديثة الى جانبِ ما تتمتّع به من استخدامٍ مكثّفٍ للتِّكنولوجيا الرَّقمية، وهو ما يتجلّى في العاصمة الإدارية، عبر أكثر من سِتَّةِ آلاف كاميرا، تنتشرُ في شوارع المدينة الجديدة، تراقب حسبما يقول المصريون "دبّة النّملة"، وتُحكِم قبضةَ السُّلطةِ التنفيذيّةِ على كل نواحي الحياة فيها، عبر تطبيقاتِ الذّكاء الاصطناعي، لكنها على الرَّغم من ذلك وحسبما يرى الكثير من الخُبراء، تفتقد لأهمّ مفاهيمِ العمران وهو ما يُعرف بـ"أَنْسَنَةِ المُدُن"، وهو مفهومٌ يقوم على أنَّ التّطور التقني المُبْهر يجب أن لا يكونَ هو الهدفُ من بناءِ تلك المُدن، وإنّما يجب أن يظلّ الهدف هو الإنسان، عبْر خلْق أفضل التّجارب المعيشيَة لتحقيق سعادتِه، وهو أمرٌ لن يتحقَّقَ إلّا من خلالِ مُدنٍ تتفاعلُ مع الانسانِ وتحترمُ آدَمِيَّتَهُ، وتلبّي احتياجاتِ جميع فئات المُجتمع، على اختلاف ثقافتِهم أو مستواهم الاجتماعي والاقتصادي.
لا توجد مُدنٌ ذكيّة، حسبما يقول عمر سليم، الخبير فى مشاريع نَمْذَجَةِ معلومات البناء، فالمدنُ تظلّ في النّهاية كِياناتٍ حيَّةً ومتطورةً، تتشكَّل من احتياجاتِ المجتمع، وهو ما يعني بوضوحٍ أنّ المدينة الذّكية، هي تلك المدينة التي تتماشَى مع الحاجةِ إلى أن تكونَ أكثر ذكاءً، وأن تُطَوِّرَ تلك المعرفة في حمضِها النّووي الفعّال والموجَّه نحو التّطوّر، فهل يصلحُ هذا القياسُ مع العديدِ من المُدنِ العربية الذّكية التي ظهرت في الفترة الأخيرة؟
المؤكَّدُ أنَّ الإجابةَ لن تكون مُرْضِيَةً، فمتوسّطُ سعر المتر المربّع للشُقق السكنيّة في العاصمة الإدارية في مصر، لا يقلُّ وفقًا لأحدَث البياناتِ عن خمسمائة دولار، وهو ما يعني أنَّ الاقامةَ في مثل تلك المدينةِ، لن تكونَ ميْسورةً للغالبيّة العُظمى من المصريين، على ما سوف يخلِّفُه ذلك من خللٍ واضحٍ في الطّابع الدّيموغرافي للمدينة، لن يلعب دورًا كبيرًا فقط في الانتقاصِ من استدامتِها الاجتماعية كنموذجٍ حضري، وإنّما يُكرِّس في الوقت عينه لمثل تلك المدينة وغيرِها من المدن المُشابهةِ في المنطقة العربية، كنموذجٍ إقصائي، يُعطي الأولويةَ لطبقةٍ اجتماعيةٍ واحدةٍ على حساب باقي فِئات المُجتمع، حيث تبدو العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، وغيرِها من المُدن الذّكية العربية الأخرى، في نظرِ الكثير من خبراءِ العمارة، أقرب ما تكون إلى مشاريعَ عقاريةٍ تعتمدُ أسلوب المُضاربة، عبْر تسويقِها وبيعِها لمن يدفع أكثر، وهو أمرٌ كفيلٌ وحده بأن يعزِّزَ من كلّ مظاهر التفاوُت الاجتماعي، عبر تقليلِ مستوى التجانُس بين الطبقاتِ الاجتماعية التي سوف تسكنُها، على ما سوف يخلِّفُه ذلك من تغيّراتٍ لافتةٍ مرتقبةٍ في منظومة القِيَمِ والعاداتِ والتقاليدِ الحاكمةِ لتلك المجتمعات الجديدة.
لكن هل تبدو الصورة سوداويّةً إلى هذا الحدّ؟
المشكلةُ تكْمن دائمًا فى الإدارة، فنقل عواصِم الدول يمكن أن يُمَثِّلَ في الكثير من الأحيان، حسبما يرى الدكتور محمد خضر سعيد، أستاذ ورئيس قسم علم الاجتماع بجامعة جنوب الوادي، أداةً لإعادةِ التّفكير في تعميقِ الهُويات الوطنية، وإعادة رسْم خارطةِ الجُغرافيا البشرية والسياسية، كما أنّه يمكنُ أن يُمَثِّلَ أيضًا إحدى الاستراتيجيّات الأساسيّة في الخلْط بيْن الديناميكيّات السياسيّة الصَاعدة والهَابطة بيْن السُّلطة والشَّعب، فضلًا عن الدّورِ الذي سوف تلعبه العواصم والمدن الجديدة الذّكية، في حلِّ بعض المشكلاتِ الحضريةِ القائِمة في العواصم القديمة، لكنَّ ذلك كله يظلُّ رهنًا بالعملِ على تعزيزِ الشّعور الوطني بالانتماء، والحفاظ على الخصوصية الثّقافية، في ظل مخاطرِ التآكل الثقافي المسْتمر، لهُويات العديد من عواصم العالم، بفعل الحداثةِ ومَثَالِبِ التّطور الحضَاري.
(خاص "عروبة 22")