الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

هل الاتحاد الأوروبي نموذج صالح للتّكامل العربي؟ (2/3)

بعدما استَعْرَضْنا، في الجزء الأول من هذا المقال، نشأة الاتحاد الأوروبي والمعايير والمتطلّبات الاقتصادية والسياسية لنيل عضويّته وما ترتب عن التكامل بين دوله من فوائد ومصالح مشتركة، نسأل: أين يقفُ العالم العربي من حيث التّكامل؟ والأهمّ من ذلك، هل نموذج الاتحاد الأوروبّي نموذج صالح للتكامل الاقتصادي والسياسي العربي؟.

هل الاتحاد الأوروبي نموذج صالح للتّكامل العربي؟ (2/3)

في ما يتعلق بالسّؤال الأول، يعود الحديث عن التكامل العربي إلى عام 1964 عندما أنشأت جامعة الدول العربية السّوق العربية المشتركة. لكنّ السّوق العربية المشتركة ظلّت إلى حدٍّ كبير "أضغاث أحلام". ولم يلقَ التّكامل الاقتصادي العربي زخمًا جديدًا إلّا في عام 1998 مع تشكيلِ منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى، حيث ساعدت على مضاعفةِ التّجارة العربية البيْنية إلى 12%، أكثر من نصفِها من السِّلع المصنّعة. إلّا أنّها لم تفعل شيئًا لتعزيزِ التّقارب الاقتصادي: فقد ظل "معامل جيني العربي" عند نسبةٍ عاليةٍ تبلغ 70%، وظلّت الفَجْوَات في الدّخل متباعدةً - فعلى سبيل المثال، بلغ نصيب الفرْد من النّاتج المحلي الإجمالي في قطر أكثر من 100 ألف دولار مقابل أقلّ من 1000 دولار في سوريا!.

ومن المُثير للاهتمام، أنه على الرَّغم من فشل المحادثات المتجدّدة لإنشاء اتحادٍ جُمركيٍ عربي في عام 2015 ليتبعه سوق عربية مشتركة لاحقًا، إلّا أنّ حركة عوامل الانتاج العربية ليست سيّئة في الواقع، حيث تبلغ نسبة الاستثمار العربي البيْني 27% ويعمل أكثر من 12 مليون عربي في دول مجلس التعاون الخليجي وحدها. وبالحديث عن مجلس التعاون الخليجي، وعلى الرَّغم من عيوبِه، إلّا أنّه أنجح مشروعِ تكاملٍ عربي حتّى الآن، حيث تأسس عام 1981 وأصبح سوقًا مشتركةً عام 2009، ولا يوجد على المستوى العربي شيء مماثِل له.

التّكامل العربي يجمع موارد 22 دولة و"عضلات" 470 مليون نسمة ويُمَكِّنُ العالم العربي من أن يُصبح "مُهَيْمِنًا" إقليميًّا

وبالانتقال إلى السؤال الثاني المطروح أعلاه، وهو ما إذا كان الاتحاد الأوروبّي نموذجًا جيدًا يمكن للعربِ الاقتداء به، من الجيّد التذكير بأنّه، من وجهة نظر الدّوافع، تم تأسيس الاتحاد الأوروبّي لتعزيزِ الأمن الأوروبّي والنفوذ العالمي والديموقراطية والنّمو الاقتصادي. وعلى هذا النّحو، سنتناول السؤال من خلال تناوُل كل دافع من هذه الدوافع تباعًا.

من النّاحية الأمنية، التّكامل العربي منطقي تمامًا. فمن شأنِه أن يجمع موارد 22 دولة عربية و"عضلات" 470 مليون نسمة ويُمَكِّنُ العالم العربي من أن يُصبح "مُهَيْمِنًا" إقليميًّا. وسيَسمحُ للعالم العربي بمواجهةِ تدخّلات القوى الإقليمية مثل إيران أو إسرائيل أو تركيا، إنْ لم يكن التغلّب عليها، وأن يصبح قوةً يُحسب لها حساب حتّى على الساحة العالمية. وبهذا المعنى، سيزيد بطبيعة الحال من النّفوذ العالمي للعرب، وربما سيمكّنهم من تذوّق طعم الاستقلال الحقيقي بعد كل النّكسات المريرة التي تعرّضوا لها منذ منتصف القرن العشرين، ومن إنهاء الصراعات الداخليّة التي لا تزال تعصف بهم إلى اليوم.

أما بالنسبة للدّيموقراطية، فربما تكون هذه هي القضية الشائِكة. فعلى الرَّغم من أنّ الدول العربية تضمّ 16 جمهوريةً و4 مَلَكيَات و3 إمارات وسلطنة واحدة، إلّا أنَّ الاعتقاد السائِد على نطاقٍ واسعٍ أنّ جميع هذه الدول تخضع لأنظمةٍ سياسيةٍ استبداديةٍ (وهذا يشمل حتى لبنان الذي حكمته سوريا في فترة ما بعد الحرب الأهليّة في البداية من 1992 إلى 2005 ثم حكمَه "حزب الله" من 2006 إلى 2024). وهي مسألة شائكة لأن الديموقراطية، كما أظْهرت تجربة الاتحاد الأوروبّي، تُسَهِّلُ الاندماجَ وتتيح له أن يصبح أوسَع وأعمَق. إلى جانب ذلك، فإنّ الدّيموقراطية عينها تدعم النّمو الاقتصادي بطريقةٍ شاملةٍ متبادلة.

إذا ما ساعد التكاملُ الدولَ العربية على النّمو والتّقارب فإنّ الديموقراطية يمكن أن تَتَجَذَّر وتُحَقِّق المزيد من التكامل

ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ الأنظمةَ الاستبداديةَ لا تستطيع الاندماج: انظر إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)[1]، أو حتّى الصّين التي تُعْتَبَرُ وسيلةً تكامليةً لمناطق واسعة ومتباينة. وهناك دائمًا أمل في أنّه إذا ما نجح التكامل العربي وساعد الدول العربية على النّمو والتّقارب، فإنّ الديموقراطية عينها يمكن أن تَتَجَذَّرَ وتُحَقِّقَ المزيد من التكامل. في الواقع هذا أكثر من مجرّد أمل، فجميع مساعي التكامل - بما فيها الاتحاد الأوروبّي بالطبع - تُسرِّع النمو الاقتصادي وفي المقام الأول للدول "التي لا تملك"؛ والتكامل الاقتصادي العربي لن يكون استثناءً في هذا الصّدد، بخاصة في ظلّ تكامل الموارد بين الدول العربية (الدول الغنية بالعمالة مقابل الدول الغنية برأس المال).


لقراءة الجزء الأول



[1] تتكوّن رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) من الدول التالية: بروناي، كمبوديا، إندونيسيا، جمهورية لاو الديموقراطية الشعبية، ماليزيا، ميانمار، الفيليبين، سنغافورة، تايلاند، وفيتنام.

 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن