صحافة

لبنان بين الأحلام المؤجلة والتحديات الحاسمة: العهد الجديد في الميزان

بلال عقل الصنديد

المشاركة
لبنان بين الأحلام المؤجلة والتحديات الحاسمة: العهد الجديد في الميزان

بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، يقف لبنان أمام مفترق طرق حاسم على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، لاسيما أن العهد الجديد يأتي في وقت تعصف بالبلاد أزمات اقتصادية خانقة، وتسود فيها حالة من الترقب السياسي ترافقاً مع تغيرات إقليمية متسارعة، مما يطرح تساؤلات جادة حول التحديات التي ستواجهها القيادات الجديدة لتحقيق آمال الشعب اللبناني بالتغيير الجذري وتحقيق الإصلاح والاستقرار.

فمع إصرار القوى السياسية على التمسك بنظام طائفي يُقسّم السلطة بين الطوائف والمذاهب، تظل التحديات عقبة كبرى أمام أي مسار إصلاحي حقيقي، ذلك أنه حتى وإن كان مسار العهد الجديد بقيادة رئيس وطني يتمتع بخبرة عسكرية واسعة وعلاقات دولية راسخة، مدعوماً برئيس حكومة ذي خلفية قانونية مستقلة، وثقافة عالية ومصداقية محلية ودولية، فإن تجاوز هذا الواقع يتطلب جرأة استثنائية وإرادة سياسية تتخطى الاعتبارات التقليدية.

فإضافةً إلى الانقسامات الطائفية والسياسية التقليدية في المجتمع اللبناني، والفشل الواضح للطبقة السياسية التي حكمت البلاد على الأقل منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، وفضلاً عن الآثار المدمّرة للحروب والنزاعات المسلّحة المتكررة، تشير تقارير البنك الدولي إلى أن لبنان يعاني واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن إعادة بناء الدولة، وتوطيد دعائم الاستقرارين الأمني والاجتماعي، ودفع العجلة التنموية والاقتصادية، تتطلب إصلاحات هيكلية جذرية.

يواجه العهد الجديد مجموعة من الملفات الملحّة والمعقدة، يأتي في مقدمتها تعزيز هيبة الدولة وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، إلى جانب حماية الحدود البرية والبحرية، وإدارة ملف النفط بفعالية، ومكافحة الفساد المستشري، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإطلاق مفاوضات جادة مع المؤسسات والصناديق المالية الدولية، إلى جانب التعامل بحكمة مع ملف "حزب الله"، الذي يتشابك فيه البعد المحلي مع المعطيات الإقليمية، في ظل ربط الدعم الدولي والخليجي في ملفات الإصلاحات الاقتصادية وإعادة الإعمار، بتحقيق إصلاحات جذرية سياسية واقتصادية، إلى جانب موقف واضح من نفوذ الحزب.

وفي هذا السياق، ليس خافياً ما يشهده "حزب الله" من تراجع نسبي في نفوذه العسكري، مع ترقب لحضوره السياسي، نتيجة تركيز الاعتداءات الصهيونية الأخيرة على بنيته التنظيمية والعسكرية ومحاولة تأليب بيئته الحاضنة عليه جرّاء ما تعرضت له من خسائر فادحة بشرياً واقتصادياً، وذلك كلّه يترافق مع خضوع إيراني واضح للضغوط الدولية والإرادة الغربية والإسرائيلية للحد من تدخلاتها في الشرق الأوسط، مقابل بعض التطلعات الخاصة بإنقاذ ملفها النووي.

وهنا تتجلى الخيارات الصعبة والدقيقة، فإما أن يتبنى العهد الجديد نهجاً صارماً تجاه حزب الله بذريعة تعزيز سيادة الدولة وتقليص نفوذه الواسع، وهو ما قد يثير مخاوف جدية من احتمالية اندلاع نزاعات أهلية قد تكون دامية، أو أن يعتمد مقاربة متوازنة تقوم على إقناع المجتمع الدولي بحساسية التوازنات المحلية التي تفرض احترام التمثيل الشعبي للحزب ودوره السياسي المستقبلي، مع عدم استفزاز الدول والمؤسسات الداعمة والمانحة.

من جانب آخر، ونظراً لأن لبنان - بفسيفسائه الاجتماعية وارتباطاته الخارجية المختلفة - لا يمكن فصله عن ديناميكيات محيطه الإقليمي، فإن التطورات والتحولات التي تعيشها المنطقة -ولا سيما في سورية - تلقي بظلالها على الداخل اللبناني، ويشمل ذلك موقف الرئيس الأميركي -المجددة ولايته - من الاتفاقات الإبراهيمية، والصراع الإيراني - الغربي، والتوترات المستمرة بين الكيان الصهيوني وما بقي من المحور المناهض، واستمرار الخرق الإسرائيلي اليومي للسيادة اللبنانية في ظل وجود قرارات واتفاقيات دولية ملتبسة.

إن مفتاح نجاح العهد الجديد يكمن في قدرة الرئيس عون ورئيس الوزراء سلام على تقديم رؤية مشتركة وشجاعة لإدارة التحديات، مع التركيز على مصلحة الشعب اللبناني أولاً، وفي غياب ذلك، سيبقى لبنان رهينة أزماته، وستظل آمال الشعب مجرد أحلام مؤجلة، وستبقى القوى المحلية والأحزاب الطائفية المرتبط معظمها بدول خارجية متحكمة بالقرار السياسي والإداري، بما يقلل من فرص تسجيل أي خرق في جدار الزبائنية السائدة. يبقى المستقبل رهناً بتشكيل حكومة وطنية تتمتع بالقدرة على العمل بفعالية، مع تجاوز جميع العقبات والضغوط المتعلقة باختيار وزراء يتمتعون بالكفاءة والاستقلالية، بعيداً عن التبعية للزعماء التقليديين ورؤساء الأحزاب.

لقد حان الوقت ليشهد الشعب اللبناني تحولاً جذرياً يقطع الممارسات المعتادة التي جعلت المناصب الوزارية رهينة توافقات سياسية، ومحاصصة طائفية ومناطقية، تجسد في جوهرها أجندات حزبية متصارعة تحول دون التوصل إلى رؤية موحدة للإصلاح الحقيقي. وخلاصة القول، فإن أي توجه إصلاحي جاد للعهد الجديد يتطلب اتخاذ قرارات جريئة تُرسي أسس دولة القانون والمؤسسات، مما يعيد للبنان مكانته كشريك موثوق في محيطه العربي والدولي، مع إعادة ترتيب الأولويات داخلياً، وإعادة التموضع في المشهد الإقليمي، بما يوازن بين المصالح الوطنية والتوازنات الدولية، وهذا ليس بالأمر الذي تسهل إدارته بما يحقق أحلام وتطلعات اللبنانيين بالحصول حتى على أدنى شعور بالسيادة الوطنية والكرامة الإنسانية، والتنعّم بأقل الحقوق الطبيعية من الخدمات الحكومية!

فبينما تتجه الأنظار إلى الخطوات المقبلة، تبقى إرادة التغيير رهناً بقدرة الأحزاب والزعماء على الارتقاء فوق المصالح الفئوية ووضع مصلحة الشعب اللبناني فوق كل اعتبار، لترى آمال الشعب طريقها إلى النور.

(الجريدة الكويتية)

يتم التصفح الآن