أمام هذا التعنُّت الاسرائيلي، برزت المواقفُ الأميركيّة المزدوِجة حيالَ جنوب لبنان وقطاع غزّة، فأعلنَ البيت الأبيض عن تمديدِ قرارِ وقف إطلاق النّار لغاية 18 فبراير/شباط، لكنّ أهالي الجنوب سجّلوا موقفَهم بشجاعةٍ في ملحمةِ التّحرير بأجسادِهم العاريةِ إلّا من إيمانِهم العميقِ بأرضِهم ووطنِهم.
وبشيءٍ من العَبَثِ والجُنونِ السّياسي، وفي إطار سعيِه لتنظيفِ المنطقةِ بالكامل من الفلسطينيّين، تَفَتَّقَتْ عبقريةُ الرّئيس الأميركي دونالد ترامب عن اقتراحاتٍ مجنونةٍ تقضي بتهجيرِ الفلسطينيّين من غزّة إلى مِصر والأردن، وربّما غدًا من أراضي 1948 إلى لبنان.
يستهلّ ترامب ولايتَه بقرارات أكثر يمينية من اليمين الإسرائيلي المتطرّف وتستمرُّ طهران في القتال التّراجُعي
إذن، نحنُ أمام خطةٍ من خارجِ الصندوق، للمتربِّع ثانيةً على كرسي دفّة قيادةِ العالم انطلاقًا من موقعِ الولايات المتّحدة في العالمِ كلّه. نَزَقُ ترامب بتهجيرِ الفلسطينيّين من غزّة إلى مصر التي ربّما لوّحَ لها سرًّا بالعصا عينِها التي رفعَها بوجهِ جارتِه كولومبيا، هي العصا عينُها التي سبقَ ورفعَها باسم الضّغط الأقصى والأقسى ضدّ إيران.
قبل فرماناتِه التّهجيريّةِ للفلسطينيّين، أطلق ترامب صليَةً ابتزازيّةً جديدةً ضدّ السّعودية التي طالبَها بلغةِ البلطجي بما يشبِه الخوّة السياسيّة برفْعِ استثماراتِها المرتقبة في الولايات المتّحدة من 600 مليار إلى 1000 مليار دولار. قرارات ترامب الجديدة، لم تُثِرْ حفيظةَ العرب ولم تستثِر حميّتهم، عندما قرّرَ نقل السفارة الأميركية إلى القدسِ وإعلان الاعترافِ بها عاصمةً أبديةً لإسرائيل، كما واعتباره الجولان السّوري المحتلّ خاضعًا للسّيادةِ الاسرائيليّة، قبل أن تتوغَّل إسرائيل إلى ما بعدِه باتجاه جبل الشّيخ توازيًّا مع تدميرِها مقدّراتِ الجيش السّوري السّابق بحجّةِ حمايةِ الأمْن القومي الإسرائيلي.
وقد تزامنَت مواقفُ ترامب الذي يستهلُّ ولايتَه بقراراتٍ أكثر يمينيةً من اليمين الإسرائيلي المتطرّف برموزِه المعروفة، فأمرَ بالإفراج عن ذخائر زنة 2000 كلغ المجمّدة لإسرائيل، والأرجح أنَّ هذا الإفراجَ لزوم التّهويل بالهجوم على إيران. وأغلبُ الظنِّ أنَّ ترامب سيوازنُ بين "العصا والجزرة"، وسيعملُ على ضغطِ إيران داخليًّا ومجتمعيًّا واقتصاديًّا، ليجعلَها ضبعًا بلا أسنان. وبعد هزيمتِها الاستراتيجيّةِ في سوريا، تستمرُّ طهران في القتالِ التّراجُعي وإجراءِ المفاضلةِ بين بقاء النظام والمشروع النّووي.
الأمن القومي العربي مسفوحٌ دمه بين القوى الإقليمية والدولية المتدخِّلة في سوريا
إنّه التراجع الذي سمحَ لوزيرِ خارجية تركيا هاكان فيدان بالقولِ للحكومة العراقيّة "عليكم التخلّص من شعورِ إيران بهزيمتِها في سوريا، فأنتم العراق، ولسْتم إيران، وعليكم المُساهمة معنا في حفظِ استقرارِ سوريا".. سوريا التي أضْحَت بين كمّاشةٍ مثّلثةِ الفكوك. ففي الفكّ الشّمالي، تتوغّل تركيا مباشرةً وبالواسطةِ عبر أذْرعِها بحجّةِ مواجهةِ أكراد "قسد". وفي الفكّ الجنوبي، تتوغّلُ إسرائيل إلى خارجِ المنطقةِ العازلة، وكلاهما باسم أمنِهما القومي. أمّا الأمن القومي العربي والأمن القومي السّوري فمسفوحٌ دمه بين القوى الإقليمية والدولية المتدخِّلة في سوريا.
الفكّ الثالث والأخطر على سوريا، هو الفكّ الداخلي الذي أخذَ يفتكُ بصورةِ سوريا الجديدة وقائدِها أحمد الشّرع الذي خلع بزّةَ الثّورة، وارتدى هندامَ رجل الدّولة، كرسالةٍ للمجتمعِ العربي والدّولي تستظهرُ التحوّلاتِ السريعةَ في سعيِه لبناء سوريا الجديدة بعيدًا عن الثأرِ والانتقامِ والإقصاء، وبثِّ كلّ أنواع التّطمينات للخارج خصوصًا حول التّعاملِ مع الدّاخل وأقليّاته. ما فتح أبوابَ "دافوس" أمام وزير خارجيتِه أحمد الشيباني الذي حظيَ بحوارٍ (سَبَقَ إطلالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد أيامٍ على انتخابِه)، أداره توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق، بحيث أسهبَ الشّيباني في عرضِ احتياجاتِ سوريا الجديدة، وتوجُّهاتِها البعيدةِ عن الانتقامِ والإقصاء، والمعزّزةِ بمبدأ المصالحةِ والتّسامح في رحابِ العدالةِ الانتقاليّة، وفي عودتِها إلى الإجماعِ والحضْن العربيَيْن ما فتح الطريق واسعًا أمام هجومٍ ديبلوماسي أجنبي وعربي على دمشق، وتوّجَ بزيارةِ أمير قطر وقَبْلَه وزير خارجية السّعودية قادمًا من بيروت، ما أشاع مناخًا خفّفَ ولو إعلاميًّا من تغوّل تركيا بسوريا التي وكأنّها ما تحرَّرت من "العباءةِ" الإيرانيةِ إلا لتتموْضعَ تحت "الطّربوش" التركي، ما يضعُ العرب وخصوصًا السّعودية أمام تحدّيات التّوازن مع النفوذِ التركي الذي سيتبيَّن أنّ مواجهتَه أصعب من قرينِه الإيراني بسبب العواملِ الجغرافيةِ والدّيموغرافية.
قد يُشكِّل "اغتيال الشّرع" البيئة المناسبة لإحداث "الانقلاب على الانقلاب" من كلّ المهزومين في سوريا
بالعودةِ الى الفكّ الثالث، وتوازيًا مع التحدّيات الكبرى التي تواجِه العرب في ملءِ فراغِ الهزيمةِ الإيرانية، تحفلُ أريافُ حمص وحماه واللاذقية وطرطوس بسلسلةٍ من الأنباء والفيديوات التي يجري تناقلها حول عملياتِ قتل وثأر وانتقام واعتقال بأبعادٍ طائفيةٍ ومذهبية، بعيدًا عن القانونِ والمحاكماتِ العادلة، ما يوحي بوجود ازدواحية لدى رجل سوريا الجديد وكأنّ أبو محمد الجولاني لم يَذُبْ كليًا في أحمد الشرع، ما يُشكّل المناخَ المناسبَ لمُمْتَهِنِي الفتنِ الطائفيةِ والمذهبيّةِ كي يدفعوا بسوريا إلى أتون فوضى داخليةٍ شبيهةٍ بتلك التي اندلعت بعد إسقاط نظامَيْ صدّام حسين ومعمّر القذّافي.. وقد يُشكِّلُ "اغتيالُ الشّرع"، البيئةَ المناسبةَ لإحداثِ "الانقلابِ على الانقلاب" من كلّ المهزومين في سوريا محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا!.
(خاص "عروبة 22")