لا يوجدُ تعريفٌ محدَّدٌ في أغلبِ الأدبيّات السياسيّة والاجتماعيّة، يمكنُ من خلالِه معرفةُ الدّلالة الدقيقة لمصطلحِ "دولة الرّفاه"، وإن ظلَّ المصطلحُ يراوحُ مكانَه ما بين دولةِ الرّعاية أو الكفالة الاجتماعيّة، على نحو ما حَقَّقَتْهُ مصر خلال فترة الستينيّات عبر نموذجِها الاشتراكي المُلْهِم، عندما رفعَت شعارَ الكفايةِ في الإنتاجِ والعدالةِ في التوزيع، وبين ما يُسمّى "دولة الرَّفاه"، غير أنَّ مضامينَ كلا المفهومَيْن تكاد أن تكونَ واحدة، وتنطق بما يتعيَّنُ أن تقدّمَه الدولةُ الوطنيةُ لمواطِنيها من خدماتٍ، لا سيما للضّعفاء والمهمّشين. وهو المفهومُ الذي يكادُ ينطبقُ أيضًا على الكثير من الدولِ المتقدمة، التي تسعى إلى تحقيقِ قدرٍ كبيرٍ من العدالةِ الاجتماعيةِ بين مختلفِ مكوّناتِها.
ومن عجبٍ أن تكونَ البواكيرُ الأولى لدولةِ الرَّفاه الاجتماعي، حَسْبَما يقول الدّكتور عبد الرحمن عبد العال، أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة بني سويف، قد انبثقَت بالأساسِ من فكرِ اليمينِ المحافظِ التّقليدي في بريطانيا، من جانبِ إدموند بيرك الذي يُعدُّ الأب المؤسِّس لذلك الفكرِ أواخرَ القرن الثامن عشر، إذ اعتبر بيرك أنَّ الدولةَ التي تفتقرُ إلى وسائلِ التّغيير، تفتقرُ أيضًا إلى وسائلِ الحفاظِ على ذاتِها، وهي النّقطة عينها التي انطلق منها رئيس الوزراء البريطاني بنيامين دزرائيلي في عام 1867، لتبنّي بعضِ أشكالِ الرّفاه الاجتماعي، وبخاصةٍ المتعلقةِ بتحسينِ ظروفِ الإسكان والصحّة العامّة للطبقةِ العاملة، تجنُّبًا لما ارتآه من مخاطر يمكنُ أن تؤدّيَ إلى انقسام بريطانيا إلى أمّتَيْن، إحداهما غنيّة والأخرى فقيرة.
تذهبُ العديدُ من الدّراساتِ السياسيةِ والاجتماعيّة، الى أنَّ ظهورَ مفهومِ دولةِ الرَّفاه الاجتماعي بمعناه الحديث، جاءَ كنتيجةٍ مباشرةٍ لحالةِ الدَّمارِ والخسائرِ الفادحةِ، التي مُنِيَتْ بها أوروبّا خلال الحربِ العالميةِ الأولى، قبل أن يكتسبَ المصطلحُ قوّةً وتأثيرًا بالغيْن، خلال فترةِ ما بين الحربَيْن، في ظلّ أزمة الكسادِ الكبيرِ وما شهده العالمُ خلالَها من مستوياتٍ غيرِ مسبوقةٍ من البَطَالَة، استلزمَ تدخُّلَ الدولةِ في المجال الاجتماعي، وهو الأمرُ الذي لعب دورًا كبيرًا، حَسْبَمَا تقولُ الدكتورة صفاء خليفة، مدرِّس العلوم السياسيّة في كلّية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسيّة بجامعة الاسكندرية، في وضعِ أُسُسِ دولةِ الرفاهيَّة في العديدِ من بلدانِ العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي شاعَ فيها حينئذٍ استخدام مصطلحِ "برنامج العهد الجديد" (new deal)، أثناء الحملةِ الرّئاسيّة لفرانكلين روزفلت، ومن بعدِها كندا وفرنسا، حيث شكَّلت العقودُ الثلاثة التي تبعَت الحربَ العالميةَ الثانية، فترةً من النّموّ والازدهارِ الاقتصادي، على النّحوِ الذي يمكنُ معه وصفها بالسّنواتِ الذّهبيّةِ لدولة الرّفاهيّةِ الاجتماعية، وقد لعب ذلك دورًا كبيرًا في تعدُّدِ التّجاربِ في العديدِ من البلدانِ الرأسماليّةِ، التي شَرَعَت في تطبيقِ هذا النّظام، في ذروةِ الصّراعِ بين المعسكرَيْن الرّأسمالي والاشتراكي، في ظلِّ سعيِ العديدِ من الدولِ الرّأسمالية، إلى إيجادِ حلولٍ يمكنُ أن تحميَها، من مخاطرِ التحوُّلٍ نحو الاشتراكيّةِ في ظلِّ تنامِي المدِّ الماركسي.
لعبَ تنامي مفاهيمِ الليبيراليةِ الجديدةِ في العديدِ من بلدانِ العالم، ومن بينِها بلدانُ العالم العربي، دورًا كبيرًا في تراجُعِ المفاهيمِ المؤسِّسة لدولةِ الرَّفاه الاجتماعي، وقد تعاظمَ هذا الدورُ أكثر، بعد سقوطِ المعسكرِ الاشتراكي على المستويَيْن الفكري والتّطبيقي، مقابِلَ ارتفاعٍ لافتٍ في الأصوات التي تُنادِي بأهميّة تقليصِ دورِ الدولةِ في مجالِ الرعايةِ الاجتماعيّة، والنَّظر إلى دولةِ الرَّفاه الاجتماعي باعتبارِها مصدرَ كلّ الشّرورِ والأزمات الاقتصاديّة!، قبل أن يؤدّيَ انحسارُ النّموذجُ الرّأسمالي والبدء في البحثِ عن بدائلَ أخرى، إلى خفوتِ صوتِ الليبيراليّة الجديدة، بعدما أثبتَت فشلَها في تحقيقِ مصالحِ المجتمع، وأضعفَت العوْلمةُ وما بعدَها قدرةَ الحكوماتِ على العملِ للمصلحةِ العامّة، وقلّصت الى حدٍّ كبيرٍ من قُدرةِ الدولةِ الوطنيةِ على حمايةِ مواطِنيها من قِوى السّوق العالميّة، وهو ما دَفَعَ بقوّةٍ إلى اعتمادِ العديدِ من دوائرِ صنعِ القرارِ لحزمةٍ من البرامجِ الاجتماعيّة، في محاولاتٍ متواصلةٍ لمعالجةِ الاختلالاتِ التي أدّت اليها آلياتُ السّوقِ الحرَّة، وضمان الحدِّ الأدنى من الضّمانِ الاجتماعي، الذي يمكنُ من خلالِه تحقيقُ الحريّةِ الايجابيّةِ عبر إعادةِ توزيعِ الثّروَة، وإمكانيّة التعايش السِّلمي بيْن الحرّيةِ الفرديّةِ التي تمثّلُ لبَّ التوجُّهاتِ الليبيرالية، والمساواةِ التي تمثّلُ قلبَ الاشتراكيةِ النّابِض.
باستثناءِ ما أنجزَته قلةٌ من الدولِ العربيّة، على مدارِ نحوِ عقدٍ كاملٍ، ومن بينِها دولٌ مثل الكويت والامارات وقطر وسلطنة عُمان، وقد احتلت المراتبَ الأربع الأولى عربيًّا في مؤشِّرِ التقدُّمِ الاجتماعي (Social Progress Index 2024)، لم تَشْرَع أيّ دولة عربية أخرى من بين الممالكِ السّبع والجمهوريّات الخمسة عشر، في السّعي نحو تحقيقِ دولةِ الرَّفاه الاجتماعي التي أصبحت أقرب ما تكونُ إلى "فريضةٍ غائبة"، وهو ما تكشفُ عنه العديدُ من الاحصاءات التي تشيرُ بوضوحٍ، الى نحو مائة مليون عربي، يعيشون تحت خطّ الفقر، من بينهم ما يزيد على 40 مليونًا، يعانون من نقصِ التّغذية!، على ما يُخَلِّفُه ذلكَ من أمراض ومشاكل اجتماعيّة ضخمة، وهو ما باتَ يدفَعُ بضرورةِ البدءِ في مراجعاتٍ شاملة، للعديدِ من السياساتِ الاقتصاديّة التي أدّت إلى تلكَ النتيجةِ الصادِمة، وإطلاق حُزمةٍ من البرامج العمليّة على طريقِ ديموقراطيّةٍ اجتماعيّةٍ حقيقيّةٍ، تُعدُّ هي الحلّ الوحيد، ليسَ فقط من أجلِ تحقيقِ دولةِ الرّفاهِ الاجتماعي، وإنّما أيضًا اتّقاءً لشرِّ ملايين "المَطْحُونِين"، إذا ما انفجرَ طوفانُ الغضب.
إنَّ تبنّي مثل هذهِ البرامِج، لم يعدْ مجرّدَ ضرورةٍ أخلاقية، تفرضُها الأوضاعُ الاجتماعيةُ والاقتصاديةُ المتردّيَةُ في الكثيرِ من بلدانِ عالمِنا العربي، وإنَّما هي بالقدرِ عينه ضرورة أمنيَّة يفرضُها الواقع، من أجل دعمِ قدراتِ الدولةِ العربيّةِ الوطنيّة، في مواجهةِ ما يتعرَّض له المواطنُ العربي من ضغوطٍ، لا تعوقُه فحسب عن الإنجاز، وإنّما تعمل على تعميقِ شعورهِ بالعجزِ وفقدانِ الأمل، في ظلِّ سياساتٍ لم تُقَدِّم على مدارِ عقودٍ سوى إعادة إنتاجِ الفقر!.
(خاص "عروبة 22")