ربّما يكون هذا المشكل في الغربِ أكثر تعقيدًا وخطورةً، نظرًا لتدخُّلِ عوامل ثقافية وفكرية ارتبطت بالتّاريخ الغربي لنهضتِه وتحرّرِه البورجوازي، وهي العواملُ التي ترسَّخَت في الغربِ على مدى أكثر من ستَّةِ قرونٍ وكانت كافيةً لتحريرِ الرّأسمال، ومعه تحرير الإنسان من نظامِه الأخلاقي ما قبل الرّأسمالي.
اليد العاملة تُنتج القيمة وتستهلكها وبقدر ما يسعى الرّأسمال إلى ضبطها فهو في حاجة إليها لتصريف سلعه
في الوطنِ العربي، وعلى الرَّغم من الدعواتِ المحافظةِ منذ القرن التاسِع عشر ثم القرن العشرين، وإلى غايةِ اليوم؛ يعرفُ النُّمُوّ السُّكّاني تراجعًا شبيهًا بالذي يعرفُه الغرب. وإذا كان الغربُ قد بلغَ مستوياتٍ متقدِّمةً في مجالِ المكنَنَةِ والتِّكنولوجيا والعالمِ الرَّقمي، وإذا كان نتيجةً لذلك لم يَعُدْ بحاجةٍ إلى اليدِ العاملةِ الزّراعيةِ والصناعيةِ والخدماتيّةِ إلا بمقدارٍ يُحدّدُه الرّأسمال وأقلّ ممّا نحنُ في حاجةٍ إليه؛ إذا كان الأمرُ كذلكَ بالنِّسبةِ للغرب، فهو مختلفٌ عندنا في دولِ الوطنِ العربي، لأنَّها لم تتجاوز إلى اليوم المراحلَ الأولى للبورجوازياتِ الزّراعيةِ والصناعيةِ والخدماتيةِ والمالية، فضلًا عن أنَّ الغربَ نفسه يمرُّ بين الفيْنَةِ والأخرى في حالةِ نقصٍ في اليدِ العاملة، ما يضطرّه لاستيرادِها من الخارج.
وإذا كان يَحلو للبعضِ الحديثُ عن عالمٍ لا حاجةَ فيه لليدِ العاملة، فليدَعْنَا هذا البعض نُنَبّهُهُ إلى أمرٍ مهمٍ مفادُه أنّ اليدَ العاملةَ لا تنتجُ القيمةَ فحسب، بل تستفيدُ منها وتستهلكُها أيضًا، وبالتّالي، فبقدرِ ما يسعى الرّأسمالُ إلى ضبطِ اليدِ العاملةِ والحدِّ من اتّساعِ دائرتهِا وفق مصلحتِه، فهو في حاجةٍ إليها لتصريفِ سِلَعِهِ في الأسواقِ الدّاخليّة والخارجيّة، كما أنّه في حاجةٍ إليه لإنتاجِ فائضِ القيمةِ لا في المصانعِ والمزارعِ وباقي الوحداتِ الإنتاجيّةِ غير المُمَكنَنَةِ فحسب، وإنّما في الوحداتِ المُمَكْنَنَةِ بشكلٍ كاملٍ أيضًا (يمكنُ في هذا الإطارِ الرّجوعَ إلى "قانون تسويةِ معدَّلِ الرّبح" كما أورده مارْكس في "رأس المال").
إنَّ الرّأسمالَ في حاجةٍ إلى العمل، كما هو في حاجةٍ إلى "المُزاحمةِ على العمل" بتعبيرِ كارل ماركس في "العمل المأجورِ والرّأسمال". إنّه في حاجةٍ إلى العملِ الآلي والعملِ البشري في الوقت عينه.
نتحدّثُ هنا عن رأسماليةٍ كاملةٍ وشاملةٍ في الغرب. فماذا عن الوطن العربي حيث تُسَجِّلُ عددٌ من الدولِ معدّلاتِ نموٍ سكانيّ منخفضةً مقارنةً بمعدّلاتِها السّابقة (المغرب: من 1,25% إلى 0,85% - مصر: من 1,9% إلى 1,4% - العراق: من 3% إلى 2,3%)؟.
لا تَقَدُّم لقوى الإنتاج في الوطن العربي إلّا بتعميم الرّسملة وهذه في حاجة إلى الإنسان المُنتِج
في دولِ الوطنِ العربي يجب أن تنظرَ الحكوماتُ إلى النّموِّ الدّيموغرافي والسُّكَّاني من عدّةِ جوانب:
- الحاجة إليه في مرحلةٍ انتقالية: وهذه المرحلةُ الانتقاليةُ تُفيدُ إمّا مرحلة لتثبيتِ الاستقلالَيْن السّياسي والاقتصادي، وهنا تصبحُ للمواردِ البشريةِ قيمة مضاعفة في حمايةِ الاستقلالِ والحفاظِ على البنى الإنتاجيّة الوطنيّة؛ أو هي مرحلةٌ لتراكُمِ الرّأسمال الأوّلي، وهو التّراكمُ الذي تتظافرُ فيه عدّة عوامل بشرية وغير بشرية، "الرّأسمال الثّابت" و"الرّأسمال المُتحوِّل" في قاموسِ الاقتصادِ السياسي. هذه المرحلةُ تعيشها أغلبُ دولِ الوطنِ العربي، ما يُعزّز الحاجةَ إلى الاهتمامِ بمعدَّلاتِ النّموّ السُّكَّاني حفظًا لقوّةِ الإنتاجِ البشريّةِ في بُعْدَيْهَا: الاقتصادي من جهة، والسياسي والثّقافي من جهةٍ أخرى.
الرّأسمال مُطاَلبٌ بـ"تحسين حياة" الإنسان المنتِج/العامل واستثمار الرّبح في خدمته
- الحاجة إليه في رَسْمَلَةِ المجتمع: وذلكَ لأنَّ هذه الرّسْمَلَة لا تبدأ بالتِّقنيةِ العاليَة، وإنّما تتطوَّرُ عبر مراحل: منَ المرحلةِ اليدويّةِ البسيطة، إلى غايةِ المرحلةِ الرّقميةِ والإلكترونيةِ الذّكية. مجتمعاتٌ عديدةٌ في الوطنِ العربِي لم تغادِر بعد المرحلةَ اليدويةَ البسيطَة، وأخرى ما تزالُ في "منتصف" طريقِها إلى تعميمِ الرّأسمال ومَكْنَنَتِه، وهذا يعني أنّ كلّ برنامجٍ لرَسملةِ المجتمعاتِ العربيّةِ يحتاجُ إلى يدٍ عاملةٍ في المجالاتِ التّقنيةِ وغير التّقنية، ما دامَت الآلةُ لا تتحرّكُ إلّا بها، وإذا تحرَّكَت بها لا تستغنِي عنها. هناك من سيستغربُ مطلبَ "الرَّسملة" في الوطنِ العربي، غيرَ أنَّ هذا المطلبَ يصدرُ عن حاجةٍ تاريخيةٍ يفرضُها اقتصادُ الرّأسمال، وهو ضرورةٌ بدورِه. فلا تَقَدُّمَ لقوى الإنتاجِ في الوطنِ العربي إلّا بتعميمِ الرّسملة، وهذه في حاجةٍ إلى الإنسانِ المُنتج، ومن هنا أهمّية النّمُو السُّكَّاني في المجتمعاتِ العربيَّة.
- الحاجة إليه في تنميةِ وتعميمِ الرّأسمالِ الوطني: كما أنَّ هذا الرّأسمال مُطاَلبٌ بـ"تحسينِ حياةِ" الإنسانِ المنتج/العامل، واستثمارِ الرّبحِ في خِدمتِه، فهو في حاجةٍ إلى الإنتاجِ البشرِي الذي يتحوّلُ إلى قوّةٍ في منحيَيْنِ بالنِّسبةِ لرأسمالاتٍ مثل الرّأسمالاتِ العربيةِ؛ القوّةُ الأولى في منحى إنتاجِ القيمةِ وفائضِ القيمةِ داخليًا؛ والثانيةُ في منحى التأثيرِ في الرّأسمال الأجنبي ما دامَ موجودًا وما دامَ في حاجةٍ إلى اليدِ العاملةِ الوطنيّة. قد تتحوَّلُ اليدُ العاملةُ الوطنيةُ إلى وسيلةِ ضغطٍ على الرّأسمال الأجنبي، كما هي "وسيلةٌ بشريةٌ للإنتاج" (قوّة عمل) في علاقتِها بالرّأسمال الوطني.
- الحاجة إليه خارج منطقِ الرّأسمال: يحتاجُ المجتمعُ الرّأسمالي إلى الإنسانِ (قوّة العمل) في واقع مُمَكْنَن رأسمالي، وهو في حاجةٍ إليه أيضًا خارج إطارِ هذا الواقع، وبعد نَفْيِه واستنفادِه لأغراضِه.
لا يُنْظَرُ للبشرِ في التفكيرِ الرّأسمالي إلّا كـ"تروس آلة" بتعبيرِ مصطفى محمّد، حيث يُعَرّفُ الإنسانُ "اقتصاديًّا" فحسب. وبالتّالي، يتحوّلُ في تدبيرِ رجلِ السّياسةِ والرّأسمال إلى عاملِ إنتاج، كما تتحوَّلُ الأسرةُ إلى وحدةٍ إنتاجية.
هذا من حيثُ التفسيرِ الملموسِ والموضوعي صحيح، إلّا أنّ السؤالَ المطروحَ على "المُشاطَرَة" العربيةِ ("المُشاطَرَة" تعبيرٌ للصّوفي المغربي أبي العباس السّبتي ويعني بِه الاشتراكيّة في الملكيات) هو: هل خُلِق الإنسانُ ليُنْتِجَ فائض القيمة فحسب؟! مع هذا السّؤال يتبلوَرُ فكرٌ إنسانيٌ عربيٌ يدافعُ عن الإنسانِ خارج منطقِ الرّأسمال، لكِن ليصبَّ فيه في نهايةِ المطافِ ما دامَ هو المنطقُ السائِد، وفي نَفْيِهِ إذا تحقّقَ هذا النَّفي.
(خاص "عروبة 22")