الحوكمة والديموقراطية

استعادة الواقعيّة السياسيّة

غالبًا ما تكونُ الحاجةُ إلى مراجعةِ المفاهيمِ وجدوَى استخدامِها مسألةً غير مطروحة على بساطِ البحثِ في الأوقاتِ العاديَّة، بل نرى تفعيلَ هذه الحيثيَّة في كلِّ مرةٍ تتفاقَمُ فيها الأوضاعُ سوءًا بسببِ حوادث ضخمة، كالحربِ مثلًا أو الثّورات والانقلابات وسقوطِ الأنظمة السياسيّة وما تستدعيه الحالُ عندئذٍ من تفكُّرٍ لا بُدَّ منه في سيْرورةِ الانتقالِ الدّيموقراطي.

استعادة الواقعيّة السياسيّة

لمّا كان التفكُّرُ في مثلِ هذه الحال لا يأتي عفوَ الخاطِر، بل بخُطوةٍ شبه إجباريَّة، فإنّنا نلاحظُ كثيرًا من العناصر الفاعلة في مجرى الحدثِ تمارِسُ العنادَ الفكري والعملي معًا. هذا العنادُ يتجسَّدُ بالحَشْدِ اللّامعقولِ للوضعيَّاتِ الخاسرةِ أو للأنظمةِ البائدةِ أو للمطامحِ الفاشِلة. فترى التعنُّتَ سيّدَ الموقفِ في الفسْحِ أمام الرَّأي العامّ بتشكيل حَيِّزٍ له على أرضِ المُمْكِنَات، وَبَدَلَ التفكُّرِ بكيفيةِ الاشتراكِ الفاعلِ في الوضعِ الرَّاهن، نجدُ تعصُّبًا ليس لأشخاصِ الوضعِ الزَّائل فحسب، بل للزَّمان عينِه الذي مضى!.

إنَّ هذا العنادَ اللّامنطقي يؤسِّسُ للفئةِ الرّافضة للواقِع. والرّفضُ هنا لا يكونُ من بابِ النّقدِ الذي يتغيَّا طرحَ تفسيرٍ للمواقفِ السّابقة، في سبيلِ التّجاوزِ المنطقي للفهمِ الذي كان قائمًا، والذي بسببِه حدثَ ما حدَث، بل يكونُ رفضًا جوهرانيًّا يُحَمِّلُ الفاعلين الجدُد مسؤوليّةَ الفشل التّاريخي في إحلالِ فكرةٍ مكانَ أخرى في مجالَيْ السّياسة أو الدّين. وقصدتُ مباشرةً مجالَيْ السّياسة والدّين لأنَّ الكيْنوناتِ المُتَعنِّتَةَ تمعِنُ في إظهارِ عنادِها في إمكانِ التّعديل داخل أيّ من مشاهدِ التطبيق الرّاهن في الدّين والسّياسة.

ولمّا كانت حركةُ التّاريخ لا تقبلُ الجمودَ على فهمٍ واحدٍ وتحويلِه إلى ركنٍ من أركان الوجودِ أو مبدأ من مبادِئ الاعتقاد، فإنّ التخريبَ سيكونُ سَيِّدَ الموقفِ في الظهورِ عند هذه الفئة التي لم تنخرط إلى الآن في الواقِع القائِم.

السياسة علمٌ لا بُدّ مِن إتقانِه وكذلك الدّّين لا بُدّ له من مواقف عِلميّة حتّى لا يجرَّ أتباعَه خارج زمانهم

قد يظنُّ القارئُ لهذا الوصفِ أنّنا ندعو الإنسان إلى التخلّي عن مبادئِه وأفكارِه أمام أيّ هبَّةِ ريحٍ قد تحلُّ به، لكن ما نقصدُه هو العكس تمامًا. ذلك أنَّ صاحبَ المبدأ ينبغي أن يكونَ صاحبَ المبادرةِ في الفهم، في الآن عينه. إنَّ المبدئيةَ لا تعني المروقَ فوق مجرى الزمان، بل تعني الانشغالَ الدّائمَ بفهمِ الحيثيّاتِ المتقلّبة. هذا الفهمُ الذي يجعل الشخصَ جريئًا في تبديلِ موقفِه بما يواكبُ الحدَثَ القائم، حتّى يتمكَّنَ من الفاعليَّةِ والتأثير.

هناك مسألةٌ لا بُدَّ من ملاحظتِها في شعورِ الفئة التي تخسَرُ دواميةَ حضورِها في المشهدِ، وهي أنَّ الإحساسَ بالمظلوميَّةِ والاستثناءِ والظّلمِ والقهرِ سيصبح جزءًا من أدبيَِّاتها اليوميّة. هذا التشكُّل اللّاواعي للحضورِ المارقِ ينبغي أن يُهذِّبَهُ الوعي بضرورةِ الحضورِ الثّابتِ للذّوات في الواقِع، أي الجرأة في ممارسةِ النَّقد الذّاتي للسُّلوكِ الذي لا يؤدّي إلى التّطور والتّقدم وتجويدِ الحياةِ في المجتمع. وممارسة كهذه هي التي توجبُ على الكلّ احترامَ إرادةِ الكلّ، لأنَّ المسؤوليةَ عن بناءِ الحياةِ ستكون مشتركةً بين الجميع، عندئذٍ لن تشعرَ الذّواتُ الفاعلةُ أنّها خسرت، بل تشعرُ بأنَّ ممكناتِها في التجاوُزِ والفهمِ والاستيعابِ والتطوّرِ قابلةٌ للتحقّق في كلّ حين.

من هذه اللحظةِ الواعيةِ يُمكنُنا أن نمنعَ منطقَ التقاطُبِ اللّامفيدِ في إنجازِ مفاهيمٍ راهنةٍ في السّياسةِ والإدارةِ والحُكْمِ والاجتماعِ القويم، كأن نرى المجتمعَ رابطةً لأقلّياتٍ مضطرّةٍ لأن تتعايشَ معًا، أو أن نرى فيه أكثريةً تتحكَّم بأقليَّة، أو العَكس. إنَّ الرَّفض الحقيقي للخسارةِ يكونُ بوعيِ الاشتراكِ العلمي في إبداعِ الحرّيةِ الحضوريّة للفردِ في يومِه. لذا إنّ القدرةَ على التّعاونِ في بناءِ مفاهيمٍ راهنةٍ تَنْتُجُ من الحوارِ المستمرِّ الذي يُتيحُ لكلّ واحدٍ أن يُظهِرَ موقفَه ممّا هو قائم، هي اللحظة التي ينبغي عدمَ مفارقتِها كي نُنجزَ انتقالَنا الآمن إلى واقعٍ جديد.

التجارب تجعلنا أكثر كفاءة في استشراف المستقبل وصناعة الحاضر

على الجميعِ أن يشعرَ بأنَّه لا يمكنُ الاستغناءُ عنهُ في تأسيسِ مفهومٍ لقيامِ الدولة الجديدة. وإذا كان الاستبدادُ قد وَلَّدَ عند النّاسِ شعورًا بالدّونيَّةِ أمام سطوةِ الحكمِ المطلق، فإنَّ الفرصةَ التي أمامنا اليوم هي طرحُ كلّ الأفكارِ والهواجسِ على طاولةِ الحوارِ السياسي العلمي البنّاء. وأربط السياسةَ بالعلمِ، لأنَّ هناك ضرورةً في فهمِ أنَّ السياسةَ علمٌ لا بد من إتقانِه حتى نتمكّن من بناءِ نظريةٍ في الحكم، وكذلك الدّّين لا بُدَّ له من مواقفَ عِلميّةٍ تُبقيه قيدَ الدرسِ والاشتغالِ حتّى لا يجرَّ أتباعه خارجَ زمانِهم.

علينا أن نفهمَ أنّه لا يمكنُ لأيّ فئةٍ أن تتركَ مشاريعَها السّابقة التي أثبتت فشلَها في تحقيقِ الأمنِ والتقدُّمِ والازدهارِ، إلّا إذا استطاعت أن تتعاونَ مع الآخرين في صناعةِ الموقفِ الراهن.

حانَ الوقتُ لنثبتَ أنَّ التجاربَ تُراكِم الخبرات، فتجعلنا أكثرَ تحرُّرًا من قيودِ الاعتقاداتِ السّابقةِ في كلّ شيء، بل تجعلنا أكثر كفاءةً في استشرافِ المستقبلِ وصناعةِ الحاضرِ بتخطيطٍ ورويَّةٍ متناهيَيْن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن