نذهب بدايةً إلى أنّ المصطلحَ لا يُتَرجِمُ واقعًا لحاضرٍ عربي وحسب، بل يُعبِّر عن تمثّلنا عن هذا الواقع، ممّا يَفرزُ دوّامةً تُعيد استمرار الفكر الانهزامي بما هو واقعٌ يُسلَّم به عِوَضَ محاولة تجاوزه. يمكنُ ربط هذا التمثّل بشكلٍ ما، بالحركاتِ الثقافيّةِ التبشيريّةِ الغربيّة، وكذا التّوجهات الإمبرياليّة والرّأسماليّة في توجُّهِها نحو ترسيخِ مركزيّةٍ تفوقيّةٍ للغرب، لكي نصبح حينها أمام علاقةٍ ثقافيّةٍ تؤسَّس بناءً على مبدأ التَفاضُل، حيث يتموْضع الغرب برتبةٍ تقدميّةٍ عن اللّاغربي، مما يجعل من الآخَر تابعًا متخلّفًا.
قد تكون هذه العُدّة المفهوميّة التي تعكُس التمثّل العربي لوضعِه الوجودي عُدّةً غربيّةً بالأساس تنطلق ممّا قد يُسمّى العنصريّة الثقافيّة، ويطلقُ عليها أيضًا العنصرية ما بعد الحديثة أو التفاضليّة، والمقصودُ بها بناءُ أو تشييدِ التّصنيف الثقافي على أساسِ التفاضُل وتراتبيّة التّصنيف الثقافي.
لقد تمّ تطويرُ هذا المفهوم خلال ثمانينيّات القرن العشرين على يد مجموعةٍ من الباحثين على رأسهم مارتن باركر وإتيان باليبار، إذ يمكننا القولُ إنَّ ما نعيشُه اليوم من ذهنٍ انهزامي، خصوصًا في التمثّل العربي العام، يعكُس كيف تحوّلت عملية النَّمْذَجَة الغربيّة من عمليةِ تثاقفٍ حضاري إلى عملية صدامٍ حدّي معياري، فكيف يمكن قراءةُ هذا الوضع؟
قد يُحيلُ مصطلحُ الانهزام الثّقافي على معطى طبيعي ومُسَلّم به في خضمِّ مسارٍ تاريخي يتأرجح بين عدّة احتمالاتٍ تتوافقُ والفاعليّة البشريّة، لكنَّه قد يصير إشكالًا عندما يتحوّل إلى ترادفٍ هُويّاتي يُشَرْنِقُ الذّات ويمنعُها من فكّ قيودِها الوهميّة نحو قدراتها ووجودها.
نحن إزّاء شرْنقةٍ تغطّي السّياق العربي العام، حيث تمَّت مواجهتُها بالبداية بانغلاقٍ هويّاتي يرفض الآخر، أو بانفتاحٍ سلبي يسعى لمسْحِ الطّاولة وإعادة ترتيبها وفق هذا الآخر النّموذجي، أو العمل على إيجادِ أرضيّةٍ توافقيّةٍ بينهما. لكن، ما ظلّ ثابتًا هو أنّ كلّ هذه التوجّهات تتعاملُ مع هذا الآخر كإشكالٍ وجودي، مفروض ومحدّد المعالم يمكن رسْم وجوده ووجودنا إزاءه. ومن ثّمَّة فإنَّ هذا الإشكال النّاتج، بمعنى ما، عن التراتبيّة التفاضُليّة أفرزَ في السّياق اللّاغربي إحساسًا بِالدّونِيَّةِ إزّاء الآخَر الذي يقود ويتحكّم في مسارِ التّاريخ، وقد تعاظمَ هذا الإحساسُ باتِّساع الهوّة التقدميّة ما بين الشرق والغرب.
الذّهن الانهزامي ذهنٌ انتكاسي يميل إلى تبنّي حلول السّماء لأنّه يعجز عن تحقيق حلول الأرض
تحوّلت هذه الهوّة بدورِها إلى سلوكيّات وأنماط وجوديّة هي أقرب إلى انغماسٍ في وعيٍ زائفٍ ينتعشُ بدورِه على هذا التّأسيس الحدّي والتطرّفي بين الثقافات. وقد يكون مفيدًا هنا إثارة مثالَيْن اثنَيْن على الأقلّ: الأوَّلُ يخصّ إعلان إصابة نتنياهو بمرضِ سرطان البروستات، والثاني يخصّ الحرائق التي اجتاحت بعض الولايات الأميركيّة، حيث اتّضَح أنَّ التّعاطي مع هذا الأمر يرسُم ذهنية مُركّبة تمَّ توطين العجز والدّونيّة في بنيتِها، مما جعلَها تعيش على وقْع انتشاءٍ ظرفي يحمّل الطبيعة مهمَّة تحقيق العدْل الكوْني، وهنا يتمُّ رسْم محكمةٍ عليا قادرة على الإنصاف والعدْل خارج ممكنات الإنسان العربي، الأمرُ الذي يجعلنا أمام معالم وعيٍ انهزامي من أبرز سماتِه وتَمَظْهُراتِه، نذكر ما يلي:
- الانهزامُ الحضاري بكلّ أبعاده هو استسلامٌ معلَنٌ يرسُم ذهنيّةً تؤسِّس لنفسها مركزيّةً واصطفاءً وجوديًا يعفيها من مواجهةِ الانهزامِ الحضاري الذي تعيشه. ويفرزُ هذا الانهزامُ بدورِه أرضيّةً لمنطقٍ يحكمُه الصّراع الوجودي وليس الصّراع المبني على التنافس وإبرازِ الفاعليّة البشريّة بغضِّ النَّظر عن انتمائها الدّيني والثّقافي. لهذا فهو يميل إلى نَفيِ الآخَر الذي يُذكِّرُهُ بانهزامِه وضعفِه الثّقافي. فيمثّلُ هذا الآخَر عدوًّا وليس منافسًا أو شريكًا وجوديًّا، فيُدرجُ القوّة الدّينية والأخلاقيّة بمصافِّه، على اعتبار أنّه يصنَّف بالجانبِ الخيّر والآخّر بجانب الشّر.
- العنصريةَ الثقافيةَ هي انزياحٌ طبيعيٌ للتفوّق الغربي، إضافةً إلى أنّها لا تُترجِمُ، بشكلٍ مباشر، الكلّ الغربي أو تختصرُه، ولا يمكنُ أيضًا مواجهتها بنموذجٍ عنصري آخر يتغدّى على الدّعم الدّيني أو العناية الالهيّة. إنَّ الأرضيّةَ التثاقفيّة المؤسِّسة للمشترك الكوْني تفرضُ أرضيةً متعدّدةَ الأبعاد منها التّنافسية والتثاقفية. لهذا فإنَّ الذّهنَ الانهزامي ذهنٌ انتكاسي يميلُ إلى تبنّي حلولِ السّماء، لأنّه يعجزُ عن تحقيقِ حلولِ الأرض. فإذا كان الغرب قد فكّ قيوده لمباشرةِ العمل في هذا العالم، وهذا هو جوهر التوجّه الحداثي الغربي كما هو معلوم، فإنّ الإنسانَ العربي الإسلامي قد قيّد نفسَه - منذُ غَزَاه الغرب - في انتظار تدخّلِ قوّة متعالية تهزم هذا الآخر. وبقدر استدامةِ هذه القيودِ تتجدّد أزمتنا الهُويَّاتيّة ويتجدَّدُ ربطها بالآخَر، والمُجسَّد على الخصوص في الغرب. ومن ثَمَّة فالذّهنية الارتكاسيّة تُكَرّس بشكلٍ واقعي، استدامةَ الوضع الانهزامي، إذ يتمُّ خلق دوائر منغلقةٍ تتغذّى على التوجّهات المتعالية والطوباويّة خدمةً لهاجسِ تحقيقِ العدْل الكَوْني برؤيةٍ ذاتيّةٍ تجمع الكلّ تحت مجهر الظّلم الثقافي.
الانعتاق من التبعيّة التفاضُليّة هو استثمارٌ لا يتأتّى بمعزلٍ عن ضرورة بناء تحالفات قوميّة عربيّة
- لا تستوجبُ مواجهةُ العنصريّةِ الثقافيّةِ الغربيّةِ بالضرورة الدّخولَ في معارك وهميّة مع الغرب أو قراءة المشهد بناءً على ثنائيّةٍ قطبيّةٍ تُصَنِّفُ العالم إلى شرق وغرب، توجّه كولونيالي وديكولونيالي، خيّر وشرّير، متديّن ومنحرف، لأنّ المعاركَ الدنيويّة تحتكمُ لمنطقِ التفوّق الاقتصادي والعِلمي. فعلى الرَّغم من هذا التوجّه المِعياري تجاهَ الغرب، فإنّه يَصْعُبُ علينا اليوم إيجاد أرضيّة صلبة خارج المضمار الذي فرضه الغرب، من هنا يفضَّل استثمار التواجد من الدّاخل لخلْق هوةِ الانعتاقِ من هذه التبعيّةِ التفاضُليّة، وهو استثمارٌ لا يتأتّى بمعزلٍ أو بعيدًا عن مطلب وضرورة بناء تحالفات إقليميّة وقوميّة عربيّة بشكل جادّ وفعّال.
(خاص "عروبة 22")