تقدير موقف

هل يُكمل ترامب دورته الرئاسيّة؟

قد يبدو هذا السُّؤال غريبًا، وربّما ليس ملائِمًا، لكنّه في ظنّي سؤال ضروري ومناسِب لتطوّرات المرحلة، والإجابة القاطِعة تقول إنَّ الرّئيس الأميركي دونالد ترامب لو استمرَّ في قراراتِه وسياستِه التي يتَّبعها حاليًا فهو لن يكملَ فترتَه الرِّئاسيّة. هذه ليست إحدى نبوءات المُنَجِّمين وما أكثرهم وما أكثر دجلهم، لكنَّها قراءة موضوعيّة لمجرياتِ ومحدِّداتِ السياسةِ الأميركيّة والعالميّة.

هل يُكمل ترامب دورته الرئاسيّة؟

بدأ دونالد ترامب فترتَه الرئاسية بصِداماتٍ متعمّدةٍ مع كلّ ثوابِت "المؤسسة - إستابلشمنت" الأميركيّة، يتصرَّف وكأنَّه يتلقّى وحيًا في المنَام، وليس قراراتٍ وسياساتٍ مدروسة تعكفُ عليها مراكز بحوث وجِهات اتّخاذ القرارات، ولهذا لم يكُن غريبًا أن تبدأَ مجموعة من محاكمِ الولايات في إصدار أحكام تمهيديّة ضدّ قراراتِه، تمهيدًا لمعارك قضائيّة تنتظرُ ترامب في كلّ ولاية.

يخرقُ ثوابت ويطيح بتقاليد ويكاد يدمِّر علاقات أميركا التي بَنَتْها سياسات خارجيّة عبر مواقف وحِقَب مختلفة

أطلق ترامب حملته التتاريّة ضدّ مَنْ أسْماهم "مجانين الجَنْدر - Gender Insanes"، وشملَت لعناته كلّ متبنٍ للقضايا النّسوية والمساواة وغيرها ممَّن يراها ترامب ومؤيّدوه ضدّ قِيَمِ العائلة الأميركية المسيحيّة التقليديّة. ثم انقلب على المهاجرين وبدأ في تطبيقٍ عملي لسياساتِه المُعلنةِ والمُعاديةِ للمهاجرين، ودخل في معارك فعليّة مع دولِ الجوار وقادتِها في المكسيك وكولومبيا.

التفتَ لوعدٍ قديمٍ، فأوْقفَ عملَ "هيئة المعونة الأميركية"، وطلب وَقْفَ كلّ برامِجِها لثلاثة أشهرٍ للمراجعة، مع فصلِ أكثر من 60 من كبارِ موظّفيها. الحجّةُ الرئيسيّة هي أنَّ هذه الهيئة تهدرُ أموالَ دافعي الضرائب الأميركيّين على دول العالم، وهي حجَّةٌ جاذبة بدرجةٍ ما للنّاخب الأميركي، لكنّها هي أيضًا أهمّ وسيلة لبسْط النّفوذ الأميركي في العالم، إنْ كان ذلك مُهمًّا عند ترامب.

يجلسُ الرّجل في مقعدِ الرّئاسة الأميركيّة ليهدِّدَ كندا ويتوعَّد بضمِّها وبمحاربتِها بالرّسوم الجمركيّة العاليَة، وتضطرُّ كندا للرّدِّ بالمثْل، ثم ينقلِبُ على الدّنمارك ويعلِنُ أنَّه يريد ُضمَّ جزيرة غرينلاند التّابعة للدنمارك. وسبق كلّ ذلك تهديدات علنيّة لدول أوروبّا وحلفِ "النّاتو" بأنَّه غير مستعدٍ لدفع فاتورةِ تكلفةِ الدِّفاعِ عنها، وأنَّ على هذه الدّول أن تستعدَّ لمساهمةٍ أكبر في نفقاتِ حلفِ "الناتو".

وما أنْ صفَّق النّاس له وهو يضغطُ لوقفِ القتالِ في غزَّة، حتّى دعا لإجلاء مجموعاتٍ من سكان غزّة إلى مِصر والأردن. ثم زاد الرّسوم الجمركيّة على كندا والمكسيك، وطالبَ بضمِّ قناة بنما للأراضي الأميركية. هذا طبعًا غير تصوُّراتِه لإنهاءِ الحرب الرّوسيّة - الأوكرانيّة، وتهديداتِه المعلنة والمبطّنة للصّين، الشّريك التّجاري الأكبر للولايات المتحدة.

تعوَّد الأميركيون على وجود ثوابِت لا يستطيع حتى الرئيس الأميركي أن يتجاوزها

في أسابيعَ قليلة يخوض ترامب معارك "دونكيشوتيّة" داخليّة وخارجيّة، يضرب يمينًا وشمالًا، يخرقُ ثوابتَ السّياسة الأميركية، ويطيح بتقاليد أرساها دستور متطوّر تم تسجيله عبر حِقَبٍ وتطوّراتٍ مختلفة، ويكاد يدمِّر علاقات أميركا الخارجيّة التي بَنَتْها سياسات خارجيّة عبر مواقف وحِقَب مختلفة... فكيف سيستمرُّ في حُكْمِه خلال أربع سنوات مقبلات؟.

لو كان هناك من معنًى حقيقي لمصطلحِ الدّولة العميقة، فهو بالضّرورة ينطبِق على واقع السّياسة الأميركية ومؤسَّساتها القويّة، وقد تعوَّد الأميركيون على وجود ثوابِت لا يستطيع حتّى الرّئيس الأميركي المُنتخب، بصلاحياتِه الكبيرة، أن يتجاوزَها. جاء جيمي كارتر بمثاليّاتٍ ريفيّةٍ بسيطة، فاصطدم بالمؤسَّسة، وأكمل فترة الأربع سنوات بصعوبة، ولم يستطِع الفوزَ بالفترةِ الثّانيّة. وجاء باراك أوباما محمولًا على أجنحةِ الامل بشعاراتٍ برّاقة "نعم... نستطيع" و"التغيير... الآن"، لكنه ما استطاع الخروج من قيْدِ المؤسَّسة. جاء الشابُّ الاسوَد ليعبِّر عن مرحلة جديدة، لكن في النّهاية لم يكُن فيها كثيرٌ جديدٌ غير أنَّ الملوَّنين يمكن أن يصِلوا لسدَّة الرئاسة، وأن تظهرَ صورهم العائليّة الجاذبة والمداعبة لأحلام الملايين في كلّ أرجاء العالم، هذا كلّ شيء.

بالطَّبع يذكر النَّاس مصير الرّئيس الأميركي الرّاحل جون كينيدي، الذي حاول تجاوُز قيود المؤسَّسة فدفع حياته ثمنًا لذلك. وعلى الرَّغم من تعدُّد نظريّات اغتيال جون كينيدي إلّا أنَّ الكثير من المراقبين يجزُمون أنَّ الإفراجَ عن الوثائِق، بحسب الأمر الذي وقّعه دونالد ترامب، سيكشف أنَّ عملية الاغتيال تمَّت بتدبيرٍ من داخل أجهزة الاستخبارات الأميركية.

سيكون الخلاصُ من ترامب مطلبًا داخليًّا وخارجيًّا وربما يجد مصير كينيدي

في غضون أشهر قليلة، سيجد دونالد ترامب نفسَه وسط حقلٍ من نيران الحرائق التي أشعلها، حرائق داخليّة تحيط به من كل جانب، وحرائق خارجيّة لا تُبْقِ له صديق أو حليف أو جار، وفي النِّهاية ستتضرَّر المصالح الأميركية حول العالم. عندها ستشتدُّ الحملة ضدّه، وربّما يقف الكونغرس بديموقراطيّيه وجمهوريّيه ضدّه، وسيكون العالم في موقف المراقِب الشّامِت، حتّى حلفاؤه الأوروبيّون سيكونون من بين الشّامِتين.

سيكون الخلاصُ من ترامب مطلبًا داخليًّا وخارجيًّا عاجلًا ومُلِحًّا إنْ لم يغيِّر سياساته ومواقفه، وقد تكون الإجراءات الدّستورية هي المدخل لذلك، وإنْ تعذّرت فربّما يجد مصير كينيدي!. المؤكَّد أنه لا يمكن أن يستقرَّ ويستمرَّ بالسّياسات الحاليّة، لأنها ضدّ المنطِق والمصالِح وستنتهي بأن تكون ضدّ العالم كلّه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن