تستمر الدول الاوروبية بالابتعاد رويدًا رويدًا عن اسرائيل بعد ممارساتها وسياستها المتبعة في الحرب على غزة. وقد شكلت الخطوة الفرنسية القاضية بالاعتراف بدولة فلسطين الخطوة الاولى في هذا المسار المتشعب وتبعتها بريطانيا التي صعدت من وتيرة انتقاداتها ووضعت تل أبيب بين خيارين: إما أن يتم انهاء الوضع المروّع في غزة والالتزام بسلام طويل الأمد، وإما أن تقوم لندن- إسوة بالفرنسيين - وتعترف بالدولة الفلسطينية في ايلول/ سبتمبر المقبل، ما لاقى ترحيبًا فلسطينيًا وعربيًا في وقت وضعته تل أبيب كعادتها في اطار تقديم "مكافأة لحركة "حماس".
وبعد ساعات من هذا الخبر الذي وقع كـ"الصاعقة" على اسرائيل والذي يشكل مصدر قلق وإرباك لها، أعلن رئيس وزراء مالطا روبرت أبيلا أن بلاده ستعترف أيضًا بالدولة الفلسطينية. وخلال العامين الماضيين، وتحديدًا منذ بداية حرب الإبادة على القطاع في تشرين الاول/أكتوبر 2023، اعترفت 9 دول جديدة بالدولة الفلسطينية، من بينها 5 دول أوروبية هي إسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا وأرمينيا، ليرتفع بذلك عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى 141 دولة. وهذا ما يشكل المزيد من الضغوط على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة التي تمضي قدمًا بمخطط تهجير سكان غزة وضم الضفة الغربية وارتكاب أبشع أنواع الجرائم والتنكيل بحق الفلسطينيين الذين يختبرون يوميًا كل اشكال الموت والعذاب.
فعلى الرغم من الادعاءات الاسرائيلية بتطبيق "هدنة انسانية" في القطاع، الا ان ذلك لم يحصل حيث الخروقات تتزايد ويسقط خلالها المزيد من الضحايا ومعظمهم من طالبي المساعدات الذين يصطفون بطوابير ضخمة للحصول على معونة غذائية خاصة ان معظم المساعدات تتعرض للنهب أو السرقة من قبل لصوص او فلسطينيين مجوعين ضاقت بهم السبل بعد اشهر طويلة من التجويع الممنهج. هذا ولا يكفي ما يدخل من شاحنات "محدودة" بسد حاجات العائلات التي فقدت كل ما لديها خلال الحرب المستمرة منذ ما يقرب الـ22 شهرًا دون ان يلوح في الافق أي بوادر لارساء هدنة خاصة بعد فشل جولة المفاوضات الاخيرة بين وفدي اسرائيل وحركة "حماس" وانهيارها في الساعات، بل اللحظات الأخيرة، نتيجة الشروط والشروط المضادة ما ادى الى خيبة آمال الفلسطينيين الذين كانوا يعولون على اتفاق لوقف النار علّهم يلتقطون انفاسهم ويسحبون الأحبة من تحت الركام.
أما حاليًا، فتتجه الانظار الى دور ما يمكن ان تلعبه الولايات المتحدة الاميركية في هذا الاطار والضغط على نتنياهو للعودة الى طاولة المباحثات والتخفيف من حدة العراقيل رغم ان دور واشنطن لم يكن، حتى الساعة، محايدًا او مناصرًا للفلسطينيين بل على عكس تتبنى واشنطن اجندة تتوافق مع المخططات الاسرائيلية وتجد الاعذار والمبررات لها. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب ناقض "صديقه" نتنياهو الذي يرفض ما يسميه ادعاءات حول وجود مجاعة في غزة رغم كل المشاهد والصور الصادمة التي تخرج يوميًا من القطاع المحاصر الى العالم، وأكد ان هناك "اطفال جوعى". وبعد "مؤسسة غزة الانسانية" المشبوهة الغايات والأهداف، "بشر" ترامب بأن "مراكز الطعام في غزة ستبدأ عملها قريبا"، مجددًا الحديث عن رغبة السكان هناك بالمغادرة إذ حصلوا على البدائل. وفي وقت سابق، ادلى الرئيس الاميركي بتصريحات أكد فيها أن بلاده وإسرائيل تعملان معًا لمحاولة تصحيح الامور في غزة، على حدّ تعبيره.
وتُعقد التناقضات في المواقف الاميركية امكانية التوصل الى حل خاصة أن واشنطن لا تمانع مخططات التهجير بل كان ترامب أول من طرحها على نتنياهو في البيت الابيض وتحدث عن "ريفييرا الشرق الأوسط". وهذه الريفييرا التي يُراد لها ان تقوم على أنقاض القطاع المنكوب تأتي في وقت تدرس فيه اسرائيل عدة بدائل بعد انتهاء عملية "عربات جدعون" التي لم تنجح في إحداث تحول بقضية الأسرى المحتجزين لدى "حماس"، بحسب "هيئة البث الاسرائيلية". ومن ضمن هذه البدائل ما وصفته الهيئة نفسها على أنه "بديل متطرف" إلى جانب ضم أراض أو الحكم العسكري، موضحة أن الخطة تقوم على فرض حصار على التجمعات السكانية في غزة ومنع دخول أي مساعدات أو طعام أو ماء، سواء عبر الشاحنات برًا أو بالإسقاط جوًا، وذلك لإجبار الفلسطينيين على التوجه جنوبًا.
في وقت نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن مصادر قولها إن المجلس الوزاري المصغر ناقش عددًا من المقترحات، من بينها تقسيم جديد لقطاع غزة قبل إطلاق خطة لاحتلاله بأكمله. يُذكر أن وكالتا "رويترز" و"الصحافة الفرنسية" نشرتا صورًا التقطت، أمس الثلاثاء، تظهر بشكل جلي حشودًا عسكرية إسرائيلية عند تخوم الحدود مع قطاع غزة ما ينذر بأن هناك تصعيد جديد يتم التحضير له خلف الكواليس وسيعقب "الهدنة الانسانية" الشكلية التي لم تلتزم بها اسرائيل، والتي أجبرت على اقرارها للتخفيف من حجم الضغوط الممارسة عليها من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية.
في إطار متصل، تتصاعد وحشية اسرائيل وأعمالها الاجرامية في الضفة الغربية المحتلة التي تعتبر شاهدًا اضافيًا على المخططات الاسرائيلية الاستيطانية، حيث تنكل القوات الأمنية وجموع المستوطنين على حد سواء بالعائلات الفلسطينية وتستولي على أملاكها وأرزاقها. وفي اخر المعطيات الواردة، برزت حملة استنكار واسعة وغضب شديد بعد الاعلان عن استشهاد الناشط عودة الهذالين برصاص مستوطن خلال تصديه للاعتداءات على أهالي قرية أم الخير بمسافر يطا جنوب الخليل الاثنين الماضي. وذكرت صحيفة "هآرتس" أن محكمة إسرائيلية قررت الإفراج عن المستوطن الذي ظهر في مقطع مصور وهو يطلق النار على الهذالين بشكل متعمد فيما لا تزال تحتجز جثة الأخير وترفض الافراج عنها. وهذا الاجرام المتمادي يتزامن مع شنّ قوات الاحتلال حملة اقتحامات ومداهمات واسعة شملت عدة مناطق في الضفة الغربية.
لبنانيًا، نقلت وكالة "رويترز" عن مصادر لبنانيّة أن المبعوث الأميركي توم برّاك لن يتوجه إلى بيروت إذا لم تقدّم الحكومة التزامًا علنيًا بشأن نزع سلاح "حزب الله"، مشيرة إلى ان إسرائيل رفضت قبل أيام اقتراح رئيس مجلس النواب نبيه بري بوقف ضرباتها تمهيدًا لتطبيق وقف النار في لبنان. وتكثّف واشنطن من ضغوطها على بيروت للإسراع بإصدار قرار رسمي ملّزم من مجلس الوزراء بنزع سلاح الحزب الذي لا يزال، حتى الساعة، يرفض كل المقترحات المطروحة ويصر على الحصول على "ضمانات" ووقف الخروقات الاسرائيلية كشرط اساسي للبدء بحوار حول ترسانته العسكرية ما يضع البلاد في مهب الريح مجددًا. من جهتها، شددت فرنسا على لسان وزير خارجيتها جان نويل بارو على ضرورة أن تُثبت السلطات أن لبنان دولة قوية، داعية الحكومة الرسمية إلى المضي قدمًا في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
في غضون ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي أنّ "ثلث الإنجازات العسكرية الّتي وضعت "حزب الله" في "أصعب وضع له منذ تأسّيسه" تحققت خلال فترة الهدوء"، مشيرًا إلى أنه "نفذ نحو 500 غارة جويّة على لبنان خلال 243 يومًا من وقف إطلاق النار". وأوضح أنه "تمّ خلال هذه الفترة قتل أكثر من 230 عنصرًا من الحزب، وتدمير قرابة 3 آلاف صاروخ" ما جعله "غير قادر في الوقت الراهن على تنفيذ عمليات توغّل داخل الأراضي الإسرائيليّة، كما لا يمتلك القدرة على الدخول في مواجهة عسكريّة طويلة الأمد". وهذه المعطيات - على خطورتها - تكشف واقعًا مُعاشًا مع استمرار الانتهاكات والاعتداءات بصورة يومية ومواصلة اسرائيل احتلالها لخمس مناطق استراتيجية على طول الحدود مع لبنان.
عربيًا أيضًا، أكد العاهل المغربي محمد السادس، مساء الثلاثاء، استعداد بلاده لـ"حوار صريح وأخوي" مع جارتها الجزائر بشأن "القضايا العالقة" بينهما، مشددًا على أن مبادرة الحكم الذاتي هي "حل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية". وهذا الكلام الذي جاء خلال خطاب متلفز وجهه للشعب المغربي بمناسبة الذكرى الـ26 لجلوسه على العرش التي توافق 30 تموز/يوليو تضمن العديد من الرسائل الايجابية وخطوات "مدّ اليد" خاصة ان هناك الكثير من الأواصر المشتركة بين البلدين. وبحسب "وكالة الأناضول للأنباء"، فإن الحدود بين المغرب والجزائر مغلقة منذ عام 1994، وسط خلافات سياسية بينهما. وأبرز هذه الخلافات بشأن ملف إقليم الصحراء المتنازع عليه بين الرباط وجبهة "البوليساريو" المدعومة من الجزائر، وفقًا للوكالة ذاتها.
وهنا موجز حول أبرز ما أوردته الصحف العربية الصادرة اليوم:
كتبت صحيفة "الراية" القطرية "في ظل المساعي الإسرائيلية الإجرامية لتصفية القضية الفلسطينية وقتل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المنكوب وفي الضفة، وطرده من أرضه عبر فرض سلطة الأمر الواقع، وتشجيع جرائم المستوطنين، تبرز الحاجة لموقف دولي جاد لإنقاذ الشعب الفلسطيني ولجم آلة القتل الإسرائيلية، وإعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة"، معتبرة ان "مشاهد القتل والتدمير والتجويع الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وُجدت صداها في الرأي العام العالمي الذي تكشفت أمامه حقيقة الإجرام الإسرائيلي عبر التصفية العرقية والمجازر اليومية واستخدام الغذاء كسلاح حرب".
صحيفة "الأهرام" المصرية، بدورها، لفتت الى أن "القضية الفلسطينية تعتبر بالنسبة لمصر قضية أمن قومي ولذا تتعامل معها القيادة السياسية من هذا المنطلق الذي لا يحتمل سوى التعامل الجاد المدروس بكل دقة ويأخذ في اعتباره المصلحة المصرية دون التخلي عن الثوابت المعروفة". وأردفت قائلة "إن الوضع في غزة تعدى كافة الخطوط الحمراء في ظل تطرف إسرائيلي وبالتالي فإن الواقع كان ولايزال يتطلب عقلانية ومرونة لإنقاذ مايمكن إنقاذه، ولكن بدلًا من ذلك وجدنا بعض القوى تناست أنها مسؤولة أيضًا عن هذه الكارثة وتحاول إبعادها عن كاهلها وإلقاء اللوم على مصر"، في اشارة الى تصريحات رئيس "حماس" خليل الحيّة.
وعن الاعتراف بدولة فلسطين، رأت صحيفة "الدستور" الأردنية أن "هذا الإعلان الفرنسي والبريطاني يشير إلى تحولٍ بالغ الأهمية في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية، ويُعد خطوة هامة للتصدي لمساعي إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ويعتبر جزءًا من الجهود الدولية الهادفة إلى تحقيق الاعتراف بفلسطين كدولة ذات سيادة"، موضحة أن "هذه الخطوة تعكس تطوراً سياسيًا دولياً مهماً في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وتمثل بداية المسار نحو تحقيق سلام دائم".
من جهتها، تحدثت صحيفة "عُمان" العُمانية عن أن "الستة الأشهر الأولى من فترة إدارة ترامب تميزت بالتناقضات والمواقف التي لا تتسم بالمصداقية والنزاهة حيث الدعم اللامحدود لنتنياهو ، وغض الطرف عن جرائم الاحتلال والاعتراض على نية الحكومة الفرنسية الاعتراف بدولة فلسطين"، مضيفة "بأن التناقض السياسي هو سيد الموقف وأن استخدام الخداع الاستراتيجي هو من السقطات الكبيرة التي لا تليق بسياسة دولة عظمى ينبغي أن يكون لها دور منصف وعادل يتماشى مع الأسس التي قامت عليها".
وتحت عنوان "من دمشق... هنا الرياض"، اشارت صحيفة "عكاظ" السعودية الى أن "ضخ مليارات الدولارات من السعودية إلى دمشق يضخ في شرايين الدولة موارد حيوية تدعم قدرتها على إعادة الإعمار وتوفير الخدمات وتحريك عجلة الاقتصاد، وهو عمليًا "إعادة دمج" لسوريا في الفضاء العربي ومساندة لرغبتها في بناء مؤسسات حديثة"، مشددة على أن "الإعلان السعودي يُعّد رسالة سياسية مزدوجة؛ فمن جهة يؤكد أن دمشق ليست وحيدة وأن لديها داعمًا عربيًا، ومن جهة أخرى يلمح إلى أن خيارات المواجهة مع إسرائيل ليست عسكرية فحسب بل اقتصادية أيضًا، فالتنمية وتثبيت الاستقرار يمثلان ردًا ناعمًا على التصعيد الإسرائيلي"، بحسب قولها.
(رصد "عروبة 22")