يأتي الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، معاكسًا لسياسة بايدن المُشار إليها، ويعتبرها إعاقةً للابتكار في مجال الذّكاء الاصطناعي. ويُعلن في اليوم التّالي لتولّيه الرّئاسة عن مشروع "ستارغيت"، بميزانيةٍ استثماريةٍ قدرها 500 مليار دولار، تتولّاه ثلاث شركات تقنيّة كبرى، هي (OpenAI) و(Oracle) و(Softbank).
السّياسات الدوليّة والاقتصاد العالمي والتطوّرات المجتمعيّة أصبحت رهينة لمفاجآت الذّكاء الاصطناعي وقفزاته
على الرَّغم من قِلَّةِ التّفاصيل المصرَّح بها، إلّا أنَّه اتّضح أنَّ تمويل المشروع سيأتي من جهةٍ عربيّة، وهي "الذّراع التِّكنولوجي لصندوق الثّروة السياديّة لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة"، وأنَّ التعهّد الاستثماري في السّنة الأولى سيكون بقيمة 100 مليار دولار. وبحسب ترامب، فإنَّ هذا المشروعً هو "أكبر مشروع للذّكاء الاصطناعي على الإطلاق في التّاريخ".
لا يُستغرَبُ، إذن، أن تُقام حول مشروع "ستارغيت"، عديدُ الاجتماعات والحِوارات من قبل المختصّين في تِكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي والمهتمّين بالسّياسات الدوليّة والاقتصاد العالمي والتطوّرات المجتمعيّة التي أصبحت رهينةً لمفاجآت الذّكاء الاصطناعي وقفزاته التطوّريّة الخطيرة.
الحقيقة أنَّ هذا المشروع يُثير كثيرًا من المخاوِف والقضايا، أكثر من ذي قبْل. ولعلَّ ما كان من قبيل التوجّس أو الافتراض والاحتمال سيصبح واقعًا مشهودًا، لا ريب فيه... خصوصًا أنَّ هناك أُسُسًا يرتكز إليها البحث العلمي والتِّكنولوجي في هذا المشروع الضّخم، لا يمكن تجاوزها، بل وينطلق منها أيّ مشروع آخر مماثل، في أيّ دولة معنيّة.
الذّكاء الاصطناعي هو مرآة للإنسان في ذكائه وتطوّره العقلي والمجتمعي ويجب أن يكون تحت التّحكُّم البشري
أوّلها: ضرورةُ أن ينطلق المشروع بالتّأسيس لبناء قوَّة البيانات، بإقامةِ مراكز بيانات ضخمة. وبالنِّسبة إلى "ستارغيت"، يكون تحت سيطرة وقيادة الولايات المتّحدة... ذلك أنَّ بناء قوّة البيانات تعني إمكانيَّة بناء القوى الأخرى المستهدَفة في المجالات العسكريّة والأمنيّة، ناهيك عن الاقتصاديّة والثقافيّة. وبالتّالي، يأخذ هذا المنطلقُ بُعْدَهُ السّياسي المفتوح، فيأتي ترامب مناقضًا تمامًا لتوجُّهات سلفه بايدن، كما أشَرنا.
ثانيها: المنطلقُ الأساسي الاجتماعي في الموضوع، وهو أنّ الذّكاء الاصطناعي عمليًّا هو مرآة للإنسان في ذكائِه وتطوّره العقلي والمجتمعي، ويجب أن يكون تحت التّحكُّم البشري بالكامل، وعلى الإنسان أن يطوِّرَ نظرته للمستقبل، وكيف يجب أن يكون؟... ولا شكّ أنَّ منظورَ دول التقدُّم التِّكنولوجي الكبرى، سيكون هو الرؤية المستقبليّة.
أساسٌ آخر، في غاية الأهمّية، يتعلَّق بما تتوجّه إليه الأنظار البحثيّة حاليًّا، ألا وهو المنحى الاجتماعي الآلي (الخاصّ بالذّكاء الاصطناعي الاجتماعي) الشبيه بالإنسان، أو ما يُعرف بالذّكاء العام الاصطناعي (AGI)، وهذا عمليًّا لم يَنضج بعد بالمستوى البشَري المَطلوب. ولا نستطيع أن نقاربَه إلا بعد نحو 5 أعوام على الأقلّ، وبعض الباحثين يرَون أنه سيحتاج إلى 10 أو 15 عامًا حتّى يمكن أن يصل هذا الذّكاء العام إلى مستوياتِه المستهدَفة... فمثلًا، لم يَزَل هناك قصورٌ في تطوير نموذجِ الرّؤية البصريَّة (image model)، والأمر يتعلق بفهمٍ أعمق للصُّوَر في عالم الإنسان، وفي ما يُعرف بالذّكاء الفائق (super intelligence).
أمّا بشأن التخوُّفات الدوليّة وخصوصًا الأميركية، فهي كثيرة. أبرزُها ثلاثة:
أوّلًا: التَّخوُّف بشأن إمكانيّة تدخُّل الذَّكاء الاصطناعي لإشعال حرب عالمية ثالثة، نوويّة!.
ثانيًا: التَّخوُّف من الاندفاع الصيني القوي نحو أبحاث الذّكاء الاصطناعي، وربَّما تحقيق نتائج غير متوقّعة!.
ثالثًا: التَّخوُّف بشأن من سيصل إلى أهداف السّيطرة في الحقبة القريبة القادِمة من تطوّر الذّكاء الاصطناعي، الولايات المتحدة أم الصين؟!. ناهيك عن المخاوِف الأخلاقيّة، والمجتمعيّة العديدة.
تبقى القضايا البارزة؛ والتي هي ذات أولويّة قُصوى في مشروع ترامب وغيره من المشاريع المتصدِّرة في تطوير الذّكاء الاصطناعي، وهي تدور حول المسائِل التقنيّة والثقافيّة بشكل عام. أهمُّها، من النّاحية التّقنيّة: متطلباتُ البنية التحتيّة للذّكاء الاصطناعي، والتي تحتاج إلى رَصْدِ ميزانيّات هائلة قابلة للزيادة المستقبليّة، وتحديد مصادر تمويل هذه المشاريع الضّخمة، وكيف يمكن أن ترتبط قواعدها وشبكاتها محلّيًا وإقليميًّا ودوليًّا؟
المسألةَ لم تَعُد تتعلَّق فقط بالتنافس التكنولوجي بل هناك التحديات الاجتماعيّة والسياسيّة التي لم يسبق مواجهتها
كذلك، كيف يمكن تَتَبُّعُ البيانات الضّخمة المنتِجة، والتي ستتهيَّأ لها البنى التحتيّة المطلوبة للذّكاء الاصطناعي؟ بخاصّة أنّ ما يحدث الآن بين الولايات المتحدة والصّين وبقية الدول المتقدّمة في هذا الشأن يأتي في إطار التّسابق التِّكنولوجي، مثل نظيره في العقود الفائِتة في سباق تِكنولوجيا الفضاء، أو سباق تِكنولوجيا السِّلاح النَّووي. الشيء الذي يُلِحُّ بقوَّةٍ على جميع المتنافسين، مَن سيستفيد من الذكاء الاصطناعي أكثر؟ ومن سينتصر؟... لكنَّ المسألةَ الآن لم تَعُد تتعلَّق فقط بالتّنافس التِّكنولوجي، بل هناك التّحديات الاجتماعيّة والسياسيّة التي لم يسبق مواجهتها فيما مضى.
إنَّ الذّكاء الاصطناعي هو النّظير الآلي للإنسان... والذي يطرح قضيّة التّساؤل الجوْهري: ماذا يعني كونك إنسانًا؟... وهو ما يتطلب فهمًا أعمق للذّكاء، لم تصل إليه التطورات البحثيَّة بعد... وبالتّالي، نحتاج إلى مراجعة كم لدينا من المعرفة لفهم أنفسِنا جيّدًا، والوعي بذواتنا البشريّة، وكم لدينا من المعرِفة لتفهُّم القضايا والجهود الأخلاقيّة المصاحِبة لتطوّرنا البشَري والآلي.
(خاص "عروبة 22")