تأثر ترامب بشدّة بأفكار طائفة مسيحية أصولية بروتستانتيّة تُسمّى طائفة "الغراهاميّين"، ومؤسسها الأب بيلي غراهام (1918 - 2018)، وهناك علاقة وطيدة بين الرجليْن، فغراهام وابنه فرانكلين يؤكّدان دائمًا أنّهما من المؤمنين بترامب، ومقتنعان بلا أدنى شك بأنّ ترامب اختاره الرَّبّ لهذه المهمة، وقد وصف ترامب بيلي غراهام عند وفاته في تغريدة قائلًا: "لم يوجد شخص مثله... سيفتقده المسيحيّون وأتباع جميع الديانات". وكان يراه "رجلًا مميّزًا للغاية"، على حدّ قوله.
ضمّ إلى معسكره أصوليّين ومُصابين بالهوَس الدّيني والعسكريّين المرتبطين باحتكارات البترول والطاقة والسلاح
تعتنق تلك الطائفة ومناصروها - ومنهم ترامب - المزاعم التوراتيّة بحقّ اليهود في امتلاك دولة تمتدّ "من النّيل إلى الفرات" وحتميّة امتلاك اليهود أرض الميعاد -فلسطين - من أجل التعجيل بالأحداث التي تؤدّي إلى المجيء الثّاني ليسوع المسيح. وترى هذه الطائفة أنّ الشخص الذي يعتنق أفكارَها يصبح جزءًا من الرَّبّ ومتفانيًا معه، وهو محفوظ بعناية الرَّبّ من كل سوء، وربما يؤيّد ذلك قول ترامب وسط مجموعة من القساوسة، بعد محاولة اغتياله: "لقد أخبرني الكثيرون أنّ الرَّبّ أنقذ حياتي لسبب ما"، فهو من وجهة نظره مُختارٌ من الرَّبّ.
الرَّبّ أدار رأسه وأنقذ حياته
وخرج فرانكلين غراهام بتصريح يقول: "أعتقد أن الرَّبّ أدار رأسه وأنقذ حياته"، فمن وجهة نظرهم أن "ترامب" نجا بفضل "التدخل الإلهي"، مستشهدين بآية: "الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيس" (رسالة بولس إلى أهل أفسس 6: 11).
وعندما تعرّض ترامب لهجوم شديد بسبب علاقاته الجنسيّة المشبوهة دافع عنه فرانكلين غراهام قائلًا: "هل تتذكّرون عندما قال يسوع للحشد: "مَنْ كانَ مِنكُم بِلا خَطيئَةٍ، فَليَرْمِها بأوّلِ حجَرٍ"، فقال الجمع وقتها "كلّنا أخطأنا".
أما المُبَشّر هانك كونمان في برنامجه المسيحي "فلاش بوينت" فقد وصف الانتخابات بأنها "معركة بين الخير والشر"، مضيفًا: "هناك شيء في الرئيس ترامب يخشاه العدو يُسمّى مسحة التعميد".
البنية النرجسية وأوهام القوة
بعد فوزه بالرئاسة للمرّة الثانية أصبح لديه سلاح لأبشع ألوان العدوان من قتل وتدمير وتعصّب ضدّ مخالفيه، فمن ليس معه فهو ضدّه، والعالم تدور رحاه في عقله وأفكاره ووجدانه بين خير وشر، أو برابرة ومتحضّرين، وها هو الرَّبّ قد وقف معه وأنقذه من الموت، وتلبّسته قدرة الرَّبّ المطلقة، فعاد هو نفسه ربًّا للعالم عليه أن يخضع لأوامره ونواهيه، وها هي بنيته النرجسيّة وأوهام القوّة تدعم تمثّلًا لغُلاة طائفته الدينية وزعمائها، الذين أصبحوا بمثابة "أنا أعلى" يُطبّق آراءهم.
كما ترى هذه الطائفة أنّ الإنسان ليس ضعيفًا ومغلوبًا على أمره، بل له من القوّة والقدرات والشجاعة لفعل ما لا يتوقعه أحد من العالمين، ويفعل ذلك رغمًا عن الجميع، وهو ما يفسّر لنا القرارات الجريئة وغير المحسوبة لدونالد ترامب.
ترامب شبيه نتنياهو بنرجسيّته العدوانية ومعتقداته اللاإنسانية وتتلاقى مصالحه مع مصالح اللّوبي الصّهيوني
لقد اعتنق ترامب تلك الأفكار لأنها تنسجم مع بنيته النفسية والعقدية، ومصالحه التي تتخفّى إنْ شعوريًّا أو لا شعوريًّا وراء التأويلات التي تتحقّق فيها نوازع عنصريته وتعصّبه المقيت الذي يفتقر إلى البُعد الأخلاقي والإنساني وعشقه لمبادئ الطائفة المتعصّبة، وذلك يؤكّد النزعة اللاأخلاقية التي يعتنقها.
ويؤمن ترامب بأفكار الطائفة التي ترى أنّ تفكيرَه السحري يجعل أناسًا كثيرة تحت طاعته، فضمّ ترامب إلى معسكره أولئك الأصوليّين والمصابين بالهوَس الدّيني والعسكريّين المرتبطين باحتكارات البترول والطاقة والسلاح، ويرفعون شعار "أميركا فوق الجميع"! وهو ما يذكِّرنا بنشيد هتلر النازي "ألمانيا فوق الجميع".
وتنطلق سياسات ترامب بالأهداف التوسّعية، وبالمصالح الضيّقة لطبقة الحُكم وصنّاع القرار والمتطرّفين المتعصّبين، وهي أفكار أشد وطأة في التدمير والعدوان وإبادة البشر.
وتاريخ ترامب السياسي مليء بالتحيّزات للصّهيونية ودعواتهم الاستيطانية في فلسطين، ودعمه المطلق لنتنياهو بتاريخه العنصري الممتدّ، وهو جزّار غزّة، وقاتل الأطفال والنّساء والمدنيّين، ومُدمّر المدن والأحياء، ومجتثّ الزرع، ومُشْعِل المذابح من جنين إلى نابلس إلى طولكرم وكل بلدان وقرى فلسطين المحتلة.
لا نستغرب معه هذه المناصرة بالباطل للإرهاب الصّهيوني في فلسطين، ودعمه لإرهاب نتنياهو، وهو شبيهه بنرجسيّته العدوانية، ومعتقداته اللاإنسانية، وتتلاقى مصالح ترامب مع مصالح اللّوبي الصّهيوني ذي الصوت العالي والنّفوذ المستبدّ في الواقع السياسي الأميركي والمسيطر على حشدٍ من بيوت المال والميديا والمصالح الاحتكارية، مما يدعم دوره في اختيار الرئيس الذي يحكم البيت الأبيض.
قرارات ترامب جاءت بهدية للدول العربية ليُعلنوا بكل وضوح رفضهم الكامل لسياسات التهجير للفلسطينيّين
إنّ أغلب قرارات ترامب ورُؤاه أدانتها شعوب العالم بكلّ أطيافها، ويكفي هنا اعتراض جميع الأصوات الحرّة شرقًا وغربًا ضدّ قراراته ودعواته الفجَّة بشأن تهجير الفلسطينيّين من غزّة ضاربًا بحقّهم التاريخي عرض الحائط ومن دون اكتراث مخالفًا كل المواثيق الدولية. وهذه القرارات جاءت بهدية للدول العربية على طبق من ذهب ليعلنوا بكل وضوح وصراحة رفضهم الكامل لسياسات التهجير للفلسطينيّين؛ بل ومن حقّهم المطالبة بتفعيل القرارات الدولية المتعلّقة بحقّ العودة ومنها قرار الأممِ المتَّحدة الرقم 194 الذي يُعطي اللّاجئين الفلسطينيّين بقوَّةِ القانونِ الدَّولي حقَّ العودةِ إلى ديارِهم وقُراهُم في 1948.
(خاص "عروبة 22")