تقدير موقف

العالم العربي والعصر الترامبي

يستكمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب هلْوَساته بتأكيده أنّ خطته بشأن استيلاء الولايات المتحدة على غزّة وتحويلها إلى "ريفييرا الشّرق الأوسط"، لا تلحظ حقًّا للفلسطينيين بالعودة إلى القطاع الفلسطيني.

العالم العربي والعصر الترامبي

كرّر ترامب مواقفه العجيبة في مقابلة مع "فوكس نيوز" نُشرت الاثنين الفائت، مع إعلانه أنّه لن يكون للفلسطينيين حقّ العودة لأنّهم سيحصلون على مساكن أفضل بكثير على حدّ وصفه، موضحًا "بعبارة أخرى، أنا أتحدّث عن بناء مكان دائم لهم"، وقد نمنحُ غزّة لدول أخرى في الشرق الأوسط لبناء أجزاء منها.

لم يتوقّف الأمر عند تهجير أهل غزّة، بل تعدّاه إلى ترحيل السّجناء في الولايات المتحدة، وبينهم أميركيّون، عندما أيَّد مقترح السلفادور بنقلهم لقضاء عقوبتهم فيها وقال للصحافيين: "لو أنّ لدينا الحقّ القانوني للقيام بذلك، فسأفعل ذلك على الفور".

الإدارة الأميركية الجديدة تتصرّف وفق مزيج من المصالح وعقليّة الصفقات والإيديولوجيا اليمينية المتعصّبة

سرْدُ هذه المواقف المستهجَنة يدفع للتذكير بأنّه في العام 1830، وقّع الرئيس الأميركي أندرو جاكسون قانون إبعاد الهنود، والذي منحه السُّلطة للتفاوض على اتفاقيات مع القبائل الأميركيّة الأصليّة للتخلّي عن أراضيها في الشرق والانتقال إلى الغرب من نهر الميسيسيبّي، وما بدأ باعتباره "ترحيلًا طوعيًّا" تحوّل إلى "طردٍ إجباري" باستخدام المزيج من التدابير القانونية وغير القانونية.

تكرار ترامب والحلقة الضيّقة المحيطة به من المتعصّبين المتشدّدين لفكرة ترحيل السكّان وبينهم السجناء، يضاف إليها مواقفه من كندا وبنما وجزيرة غرينلاند والتعريفات الجمركية والعلاقات بين ضفّتَي الأطلسي وترحيل الفلسطينيين إلى السعودية، مؤشر إلى ما ينبغي انتظاره وتوقّعه من الإدارة الأميركية الجديدة التي تتصرّف وفق مزيج من المصالح وعقليّة الصفقات والإيديولوجيا اليمينية المتشدّدة والمتعصّبة. ما يعنينا هو كيفيّة الحدّ من الأضرار المباشرة والجانبية لهذا الأداء السياسي الخطير. البعض يروّج لإنجازات ترامب السّريعة جرّاء خطوات أوّلية في السياسة الخارجية أتت بثمارها. فقد وافقت فنزويلا وكولومبيا على عودة مواطنيهما الذين دخلوا أميركا بشكل غير قانوني، وارسلت المكسيك آلاف الجنود إلى الحدود الأميركية لوقف تدفّق المهاجرين والمخدّرات، ووافقت كندا على التفاوض وبنما على عدم تجديد اقتراض البنية التحتيّة من الصّين، وكلّ ذلك يعني برأي مؤيّديه والخائفين منه تصميمه وصوابيّة وجدوى مواقفه لتحقيق أهداف ومصالح بلاده.

ترامب يكاد يضرب كل الإنجازات التي لم تكن بعيدة عمّا يطلبه العرب في المنطقة

لعلّ مفاجآت ترامب المتفجّرة عكّرت فرحة وحماسة الكثيرين في منطقتنا من سياسيين ومواطنين بوصول الجمهوريين إلى السُّلطة، بل أكثر من ذلك الحماسة لهزيمة الديموقراطيين. الفرح بهزيمة جو بايدن ومن بعده المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس قد يكون مبرّرًا بعد كل الدّعم الذي قدّمته الإدارة السابقة لإسرائيل، خصوصًا في حربها الأخيرة ضدّ غزّة. لا شكّ أنّ لا شيء يُبرِّر وحشية هذه الحرب والانقضاض على المدنيّين تنفيسًا لحقدٍ لا ينتهي وتحقيقًا لأهداف دفينة وقديمة ضدّ الفلسطينيين. ولا شكّ أيضًا أنّ المكاسب مهما كبرت، تهزل أمام الدماء التي سالت ومعاناة النّاس المستمرة. لكن لا يمكننا إنكار أنّ جنون بنيامين نتنياهو ودعم جو بايدن أدّى فيما أدّى إلى خروج إيران من دول المشرق وإلحاق شرّ هزيمة بأذرعها الخارجة عن الدولة وانكفاء الحليف الروسي الذي يكاد يخرج من سوريا ذليلًا. ولا حاجة للتذكير بالسّنوات العجاف التي مرّت على المنطقة جرّاء التدخل الإيراني السافر في شؤون دولها والتفكّك الذي طال مجتمعاتها وأرجعها عقودًا إلى الوراء. تدخّل مُكابر حدا بمسؤوليها إلى التفاخر بالسّيطرة على أربع عواصم عربية ويَشي عن حقدٍ على العرب يُشبه حقد نتنياهو على الفلسطينيين.

ترامب يكادُ يضرب كل هذه الإنجازات التي لم تكن بعيدة عمّا يطلبه العرب في المنطقة: سقوط الهيمنة الإيرانية على دولٍ عربية، تعاون سياسي وأمني إقليمي متوازن وتسوية عادلة مقبولة فلسطينيًّا تراعي حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير وتفتح الباب أمام تسوية شاملة للنزاع العربي - الإسرائيلي واستكمال الاتفاقات الإبراهيميّة.

ماذا بقي من هذه الأهداف إذا تمكّنت هذه الإدارة من دفن مشروع "حلّ الدولتين" وشرعت بعملية "الترانسفير" ولا ندري ما هي الوسائل الممكن والمنوي اعتمادها لهذه الغاية. وفي هذا الوقت، يبدو أنّ حكومة نتنياهو تجد الأبواب مشرّعة أمامها لتنفيذ سياساتها الاستيطانية في الضفة الغربية.

أمام كل هذه التطورات - التحديات كيف يمكن وقف هذا الزحف الهمجي على الحقوق الفلسطينيّة من جهة وعلى مصالح دول عربية رئيسة مثل مصر والأردن والتهديد بوقف المساعدات وربما لاحقًا فرض عقوبات من جهة ثانية، وماذا بشأن تصريحات نتنياهو حول نقل الفلسطينيين إلى السّعودية؟!.

لا بدّ أن يراعي ترامب مصالحه إذا أكدت الدّول العربية له أنّها لن تتراجع عن حماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي

أوّلًا، الردّ العربي هذه المرة على الولايات المتحدة لن يكون منفردًا، بل سوف يحظى بدعم وتعاطف دولي وبخاصة من حلفاء واشنطن الأوروبيين الرّافضين كليًّا للأفكار الترامبية على أكثر من صعيد.

ثانيًا، لا بدّ من الأخذ بالاعتبار الاستياء في الداخل الأميركي سواء في الحزب الجمهوري نفسه أو خصوم ترامب وإدارته من ديموقراطيين ومستقلين ليس بشأن الموضوع الفلسطيني فحسب، بل يتعدّاه إلى جملة القرارات المتّخذة أو المنوي اتخاذها من سياسية واقتصادية واجتماعية.

ثالثًا، إذا صحّ ما يُنْعتُ به ترامب بأنّه رجل المصالح فلا بدّ أن يراعي مصالحه إذا ما تمكّنت الدّول العربية لا سيما الخليجيّة أن تؤكّد له بالمقابل أنّها لن تتراجع عن حماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي ما سوف يُعرّض أميركا لخسائر هي بغنى عنها فضلًا عن خسارة كل ما كسبته في المنطقة بعد حربَي غزّة ولبنان وسقوط نظام الأسد.

رابعًا، أميركا دولة مؤسسات وقوانين ودستور ومداورة السلطة، مهما بلغت غطرسة ويمينيّة ترامب تبقى أميركا أقوى من واشنطن وواشنطن أقوى من ترامب.

القمّة العربية المقبلة في 28 فبراير/شباط الجاري ضرورة لا غنى عنها إنّما استكمالها يقتضي انتقالًا إلى عواصم القرار الكبرى في العالم بما فيها واشنطن لكبح سياسة أميركية مُتخيّلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن