وجهات نظر

أزمات مصر المتتابعة... وتوابع تجميد السياسة

ما لم تدرك السلطة في مصر أنّ الأزمات المتلاحقة التي حلّت على البلاد خلال السنوات الأخيرة، ما هي إلا توابع لعمليات تجميد المناخ السياسي وإغلاق نوافذ العمل العام بما حدّ من تداول أي أفكار أو آراء سوى ما تنتجه السلطة في مطابخها، فلن تتوقف المشاكل عند هذا الحد بل ستتفاقم وينشأ غيرها بما ينذر بسيناريوهات مفزعة للبلاد التي خرج أهلها مرتين قبل 10 سنوات للمطالبة بمستقبل أفضل.

أزمات مصر المتتابعة... وتوابع تجميد السياسة

أول خطوة على طريق تفكيك الأزمة الاقتصادية الخانقة والتي انعكست سلبًا على أحوال المصريين المعيشية هو الاعتراف بأنّ البلاد في حاجة إلى توسيع هامش الحرية، بما يسمح بالتنوع والتعدد ويتيح آليات الرقابة الشعبية والبرلمانية، ويُسهم في صناعة صحافة حرّة تراقب أداء السلطة نيابةً عن الشعب ومجالس نيابية منتخبة تُعبّر عن إرادة الناس الحرّة، فيمارس ذراعا الرقابة (الصحافة والبرلمان) حقّهما في مساءلة السلطة ومراجعة قراراتها ومحاسبتها وعزلها إن لزم الأمر.

غياب هذا الهامش، وإنكار أنّ الأزمة سببها موت السياسة، واللجوء إلى مسكّنات لتخفيف أوجاع الناس الاقتصادية والاجتماعية بشكل مؤقت، هو محاولة لترحيل جراحة كان من المفترض أن تبادر دوائر صنع القرار بإجرائها قبل أن تتفشّى العدوى لتفسد كلّ أعضاء الجسد البالي من الأساس.

في مايو/ أيار 2022، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كافة القوى السياسية إلى "المشاركة في حوار لتحديد أولويات العمل الوطني"، لافتًا إلى أنّ البعض تحدث معه في قضية الإصلاح السياسي، وأنه شخصيًا كان حريصًا على المضي قدمًا في هذا المسار لكن "أولويات الدولة كانت بتأجّل الموضوع شوية"، إلا أنّ الوقت قد حان لإتاحة النقاش والحوار لكلّ القوى دون استثناء أو تمييز.

المهمة الأسمى للحوار هي إعادة النظر في المسار السياسي والبحث عن سبل لضخ دماء جديدة في شرايين الدولة

كانت رسالة السيسي التي أطلقها خلال حفل إفطار رمضاني، دعا فيه بعض من رموز المعارضة المصرية، واضحة، أو هكذا بدا لمن حضروا وتابعوا كلمته في هذا الإفطار، فالدولة التي غُيبت عنها السياسة لنحو 8 سنوات تحتاج إلى عملية سريعة لإنعاشها وإعادة إحيائها، والسلطة التي استأثرت باتخاذ القرارات وفرض السياسات دون نقاش أو مراجعة تحتاج إلى الاستماع لأصوات أخرى.

بناءً على دعوة السيسي، تشكّل مجلس أمناء لإدارة الحوار الذي بدوره حدّد مجموعة من القضايا وصنّفها ووزّعها على محاور ولجان، على أن يناقش كل محور عددًا من الملفات التي تشغل بال المصريين، وما أن تنتهي كل لجنة من الوصول لمقترحات واضحة تتضمن حلولًا وبدائل تنفيذية وتشريعية، يتمّ رفعها إلى رئيس الجمهورية لإصدار قرارات وتوجيهات لتنفيذها.

حسب فقه الأولويات كان من المفترض أن تتصدّر القضايا ذات البعد السياسي أجندة مناقشات الحوار، إلا أنه ولحاجة في نفس ابن يعقوب، تمّ إغراق الجلسات في مناقشات لعشرات القضايا التي زاحمت السياسة، من عينة الثقافة والهوية والعنف الأسري.. إلخ.

قاعات الحكومات والبرلمانات والمحاكم هي المناط بها مناقشة مثل تلك القضايا، وليس قاعات حوار تم تخصيصه -كما ظنّ البعض- لقضية الإصلاح السياسي الذي تمّ تجنيبه بدعوى أنّ أولوية السلطة في السنوات الماضية كانت مواجهة الإرهاب وهي مهمة نجحت فيها الأجهزة الأمنية بنسبة 99% حسبما أعلن الرئيس نفسه في أكثر من مناسبة، وعليه فإعادة النظر في المسار السياسي والبحث عن سبل لضخ دماء جديدة في شرايين مؤسسات الدولة، التي تكلّست بعدما صارت حكرًا على من يدورون في فلك السلطة، هي المهمة الأسمى للحوار الوطني والمشاركين فيه.

إذا أراد صانع القرار أن يبدأ في تفكيك مشاكل البلاد فعليه الاعتراف بأخطائه ثم الشروع في الإصلاح

قبل أيام أصدر مجلس أمناء الحوار الوطني بيانًا يشكر فيه الرئيس السيسي على "تلقيه مجموعة من مخرجات الحوار الوطني والتي تنوّعت ما بين مُقترحات تشريعية، وإجراءات تنفيذية، في كافة المحاور السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وتوجيه الجهات المعنية بالدولة لدراستها وتطبيق ما يُمكن منها في إطار الصلاحيات القانونية والدستورية".

بمراجعة ما جاء في المقترحات والتوصيات وحتى البيان الذي أصدره مجلس أمناء الحوار الوطني يشكر فيه الرئيس، نجد أنّ ما جرى خلال الشهور الأربعة الماضية ما هو إلا التفاف صريح على مطالب توسيع هامش الحريات السياسية والإعلامية والذي يمثّل غيابها لبّ الأزمة التي تمر بها بلادنا.

فالمقترح الخاص بوجود نظام انتخابي، يسمح بتشكيل برلمان يعبّر عن عموم الناس وتُمثل فيه كل الفئات، جرى تعويمه مع مقترحات أخرى بهدف الوصول إلى صيغة لا تغيّر كثيرًا في الوضع الحالي الذي تسيطر فيه أحزاب الموالاة على معظم مقاعد البرلمان، فيما استُبعدت أحزاب وقوى أخرى لمجرد أنها رفضت الدخول في معية السلطة.

وكما راهن من يوجّه الحوار على إبقاء أمر الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية على ما هو عليه، تمّ أيضًا تجاهل مناقشة أزمة حرية الصحافة والإعلام أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى، كما صرّح أحد مقرري اللجان، ففتح هذا الملف قد يدين الأطراف التي سيطرت على المشهد الإعلامي ومنعت الاقتراب منه، بهدف أن تظلّ عملية الإحكام والسيطرة على المنصات الصحفية حكرًا عليها، بما يضمن استمرار تغييب المواطنين عن الحقائق.

نزع السياسة أو تقييدها، حتى داخل حوار كان من المفترض أن تكون قضيته الأساسية الإصلاح السياسي، يعمّق من الأزمات ويفتح الباب لتكرارها، وإذا أراد صانع القرار في مصر أن يبدأ في تفكيك مشاكل البلاد فعليه أولًا بالاعتراف بأخطائه السابقة ثم الشروع في طريق الإصلاح... وسريعًا قبل فوات الآون. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن