تقدير موقف

السعودية في منعطف استراتيجي: المخاطر والفرص

تكفّلت تصريحات وخطط ترامب ونتنياهو بخلق موقف شديد الصّعوبة والتعقيد أمام ثلاثة من أهمّ حلفاء أميركا في المنطقة، وهي مصر والأردن والسعودية. يعتقد البعض أنّ هذه الخطط والتصريحات، بخاصة تلك المتعلقة بتهجير الفلسطينيّين إلى الدولتين المجاورتين لفلسطين التاريخيّة، هي تهديدات وجوديّة مصيريّة بينما ينحصر تأثيرها في السعودية على آثار سياسية واقتصادية محدودة. لكنَّ هذا المقال يزعم أنّه يُمثّل أيضًا منعطفًا مصيريًّا للسعودية سيكون من أهمّ العوامل التي ستحدِّد مكانة الرياض العربية والإقليمية والإسلامية، بل ومستقبل استقرار الأُسرة الحاكمة للسعودية ربّما لعقودٍ كثيرة مقبلة.

السعودية في منعطف استراتيجي: المخاطر والفرص

طبيعة الخطط والتصريحات الأميركية - الإسرائيلية شديدة الخطورة والاستفزاز والإحراج من جهة، وخطط محمد بن سلمان للسّعودية لنصف القرن المقبل من جهة أخرى، تشرح ليس فقط حقيقة التهديد الوجودي للسعودية، ولكن تشرح أيضًا أنّ السعودية لا تواجه فحسب مخاطِر جمّة، ولكن لديها في المقابل فرص جمّة للخروج من هذا الموقف المعقّد رابحة وليست خاسرة شرط امتلاكها الجرأة والإرادة السياسية.

أوّلًا، خطط محمد بن سلمان: رؤية 2030 وما بعدها تتلخّص في تحديث المملكة العربية السّعودية بعد تكلّس طويل وتحويلها من دولة مُصدّرة للتطرّف الدّيني إلى دولة مصدِّرة للحداثة تُمثل نموذجًا إقليميًّا بما يقتضيه ذلك من تنويع مصادر الدّخل وتقليل الاعتماد على النّفط، والاستثمار في قطاعات التّكنولوجيا والمعرفة والعقارات والسّياحة والصناعة وصولًا في تقديرِه لأن تحقق السعودية هدفيْن رئيسييْن:

1 - أن تصبح من الدول العشر الأولى اقتصاديًّا... وهذا يتطلّب استقرارًا سياسيًّا ليس فقط في الخليج وشبه الجزيرة العربية، ولكن في كلّ العالم العربي أو على الأقلّ في وادي النيل والمشرق العربي ومنطقة البحر الأحمر التي يتأثّر بها الأمن السعودي تأثُّرًا مباشرًا.

2 - أن تصبح السعودية الدولة القائدة في العالم العربي وتحلّ محل الدور المصري الغائب منذ "كامب ديفيد".

تُعرِّض خطط ترامب لتهجير مليونَيْن من سكان غزّة الطموحات السَّلمانيّة لخطر شديد

هذا التصوّر ليس مجرّد طموح لحاكم، ولكن هو أحد أهم مصادر الشرعية السياسية التي تمكّن بها بن سلمان من إحكام سلطتِه في البلاد. بعبارة أخرى، لقد باتت مثل عقد اجتماعي بينه وبين ما يزيد عن ثُلثَيْ سكّان البلاد من المواطنين وهُم الشباب والنّساء والطبقة الوسطى الحديثة التي أنتجتْها خمسة عقود من الاستثمار في التّعليم. من شأن تبديد التزامات هذا العقد الاجتماعي نزْع شرعيّة نظام حكم يمكن عمليًّا أن يستمر لنصف قرن كاملة بالنّظر لصغر سن وليّ العهد السعودي.

ثانيًا، المخاطِر المصيرية: في الحقيقة تُعرِّض خطط ترامب لتهجير مليونَيْن من سكان غزّة إلى مصر والأردن وربّما السعودية، وتصريحات ترامب وحليفه نتنياهو الاستفزازية تجاه الرياض، هذه الطموحات السَّلمانيّة لخطر شديد، بل تمزّقها إربًا كما أنّها تُهدّد شرعيّته الداخلية وتُلْحق بالرّمزيّة السياسية والروحية الإسلامية والعربية للسعودية ضررًا لا يمكن إصلاحه. كيف؟

تهجير الفلسطينيين من غزّة وهُم هؤلاء المقاومون الأشدّاء الذين هزموا إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل، يعني اشتعال جبهات مصر والأردن، والأخيرة جارة السعودية في البادية المشتركة بينهما، وهي وصفة للحرب وعدم الاستقرار في المنطقة ربما لمائة عام مقبلة. أيّ أنّ الاستقرار الذي يحتاجه تحوّل الاقتصاد السعودي نحو نادي العشرة الأوائل في العالم ويحتاجه تحوّل المجتمع السعودي من مجتمع تقليدي في أغلبه إلى مجتمع حداثي، سيقوَّض كُلِيّةً.

نبدأ بدعوة ترامب للسعودية التي "لديها الكثير من الأموال" تنفقُها على عملية تهجير الفلسطينيّين من غزّة من جهة، وتنفقُها في عملية إعادة إعمارِها لتتحوّل إلى "ريفييرا" فرنسية تمتلكها أميركا.

دفع نتنياهو الرياض إلى ركن ضيّق ليس أمامَها إلّا الاشتباك أو الاستسلام

هنا كأنّ ترامب يضع بلد الحرميْن الشريفيْن في صورة الخائِن لأمّته الإسلامية والعربية والقدس والمسجد الأقصى، إذ حسب ترامب ستتكفّل أموال السعودية بتمويل جريمة التطهير العِرقي وجريمة تصفية القضية الفلسطينية. هنا سيصعب على السّعودية التخلّي عن خطابها السياسي - الديني لمدة 75 عامًا وعن مبادرتها للسّلام ولا يمكن لها أن تدخل في مواجهة شعبية مع نحو 75٪ من سكّانها، قالت مصادر أميركية نقلًا عن ولي العهد السعودي إنّهم مرتبطون بالقضية الفلسطينية ويريدون حلًا عادلًا لها ولا يستطيع تجاهلهم.

أمّا نتنياهو فقد دفع الرياض إلى ركن ضيّق ليس أمامَها إلّا الاشتباك أو الاستسلام، فقد ادّعى أنّ الرياض تقيم تطبيعًا سريًّا منذ 3 سنوات وأنّها ستُطبِّع علنًا على الرَّغم من رفضِه القاطِع لقيام أي دولة فلسطينية... وزاد على ذلك أنّه "إذا كانت السعودية تريد قيام دولة فلسطينية فَلْتُقِمْهَا في أراضيها وهي أراضٍ شاسعة".

هنا أدرك السعوديون أنّ مخطط التهجير ليس فلسطينيًّا فحسب وما هو إلّا جزء من مشروع للتّوسع الصهيو/أميركي يتضمّن إعادة رسم حدود الدول العربية بما فيها السعودية. وهنا عاد كلام اليمين الأميركي والإسرائيلي إلى أنّها جزء لا يتجزّأ من أرض إسرائيل الكبرى التي وعدهم بها الرب في التوراة وتشمل أراضي سعودية وأردنية ومصرية وسورية ولبنانية وعراقية!

كما أدرك السعوديون أنّ نموذج السّلام الإبراهيمي سيتم تعميمه عليها وعلى غيرها بالقوّة والفرض وليس بصفقة مصالح متبادلة كما كانت الرياض تتصوّر أثناء توقيعها المتعجّل على اتفاق "ممرّ بهارات" في سبتمبر/أيلول 2023.

أيّ دور قيادي لدولة عربية مرهون بالتزامِها بالقضية الفلسطينية وتراجع قيادة مصر بعد السّلام المنفرد خير دليل

ثالثًا، الفرص: من النّاحية النظرية ليس هناك مرحلة تستطيع فيها السعودية ممارسة دور سياسي في الإقليم ودور مالي ونفطي في العالم كما هو الآن، فعلى المستوى الإقليمي يُمثّل تراجع النفوذ الإيراني ولو مؤقتًا إزاحة لما كانت تعتبره الدوائر السعودية التحدّي الأكبر لدور قيادي تضطلع به في المنطقة، إذ انفتحت للرياض حاليًا مساحات نفوذ هائل على لبنان وسوريا، بل وحتّى على العراق. وعلى افتراض أنّها كانت تُمثّل تهديدًا عسكريًا للرياض، فإنّ طهران لم تعد تمثِّل تهديدًا ولمدة سنوات مقبلة. ليست للرّياض حجّة الآن لعدم ممارسة دور قيادي في المنطقة لكن للدور شروط وتكاليف. الشرط الأوّل واضح وضوح الشمس وهو أنَّ أيّ دور قيادي لدولة عربية مرهون بالتزامِها بالقضية الفلسطينية وأنّ إهدار هذا الدور يتعلّق بالتخلّي عن القضيّة الفلسطينية. فخبرة قيادة مصر في الخمسينيّات والستينيّات لأمّتها وخبرة تراجع هذه القيادة بعد السّلام المنفرد للرئيس السادات هي خير دليل. الشرط الثاني هو توفّر الإرادة والاستعداد السعودييْن لدفع التكاليف. القيادةُ تتطلب التضحيّات كما فعلت مصر ما بين 1948 و1973 خصوصًا أنّ هذه التكاليف في أي حساب استراتيجي سعودي ستكون أرحم وأقلّ ضررًا من الاستسلام لترامب ونتنياهو.

سيُضطر ترامب لمراجعة خططه إذا وضع الخليجيّون معادلة دعم الاقتصاد الأميركي مقابل حلّ عادل للقضية الفلسطينية

على المستوى الدولي تتّسع موارد وقدرات التفاوض السعودي مع واشنطن إلى أكبر مستوى ممكن، فحلم "أميركا عظيمة" التي وعد ترامب بها النّاخبين يعتمد في جزء رئيسيّ منه على قدرته على جذب ما يقول إنّه تريليون دولار استثمارات وعقود سعودية بالإضافة لما يأمله من 3 شركاء للسعودية في مجلس التعاون هي الإمارات وقطر والكويت. وإذا وضع الخليجيّون معادلةً قِوامها أنّ تخصيص مليارات لدعم ترامب والاقتصاد الأميركي مرهونة بحلّ عادل للقضية الفلسطينية سيضطّر ترامب إلى مراجعة خططِه الجنونيّة للتهجير أو نقل السّيادة لإسرائيل على الضفَّة الغربية.

يريد ترامب من السعودية أكبر منتج للنّفط في العالم إحداث خفْض في أسعار النفط يساعد في كبح التضخّم في بلاده... وهي ورقة تفاوض كبيرة لأنّ ضغوط ترامب على الرّياض لخفض الأسعار قَرَنَهَا بتعهّد بزيادة الاستثمار في الوقود الأحفوري، ومن شأن جموحِه أن يؤثِّر في سعر نفط مجزٍ للدول المنتجة للنفط وعائداته التي يحتاجها بن سلمان للاستثمار في تنويع اقتصاده وزيادة حجمه في السنوات الخمس المقبلة.

كثيرًا ما واجه القادة العرب بعد رحيل جمال عبد الناصر الولايات المتحدة بمواقف مُعقّدة مليئة بالمخاطِر والفرص ومليئة بالاستسلام والمقاومة وكانت اختياراتهم، إلّا ما رحم ربّي، هي اختيار الاستسلام وتضييع الفرص.

فهل نحن على أبواب صَحْوَة عربيّة أم على أبواب هزيمة كبرى؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن