تقدير موقف

"مِكْبَس" ترامب الثاني.. ومفاجآت "خارج الصندوق"!

قبل تصدير إيران لثورتها في المنطقة، كان النّظام الرسمي العربي يعيش انقسامًا عموديًا وأفقيًّا، جرّاء اتفاقية "كامب ديفيد" وخروج مصر من معادلات الصراع مع إسرائيل العدوّة. ثم تحوّلت "مصر كامب ديفيد" إلى قاطرة لمشاريع السلام العقيمة والدامية، ونقطة استقطاب في الواقع العربي، نتج عنه ما عُرف بـ"الاعتدال العربي" مقابل "جبهة الصمود والتصدي".

أخذ معسكر الاعتدال ينمو، مقابل ضمور معسكر الصمود، الى أن تمّ الإجْهاز عليه، بدءًا باحتلال العراق عام 2003 بعد حصار سنوات، وحصار ليبيا لسنوات ثم تدميرها بدءًا من عام 2011، في حين أصيبت سوريا بثورة مُركّبة نجحت منذ أسابيع في إسقاط النظام السابق، وإخراجها من "محور المقاومة" الذي نمى وتمدّد على أنقاض "جبهة الصمود والتصدي" أيضًا.

ما كان خطرًا على الأمن القومي العربي بات خطرًا على الأمن الداخلي للدول المستهدَفة باستقبال أهالي غزّة

صحيح أنّ نشوة الفرح السوري والعربي خصوصًا بإسقاط النظام السوري ملأت الأرجاء، وأعادت العرب إلى سوريا، وسوريا إلى العرب ومن أبواب القصور العالية، لكنّها وضعت سوريا الجديدة بعد تحرّرها من إيران، بين فَكَّيْ كمّاشة، إسرائيل العدوّة جنوبًا، وتركيا "النّاتويّة" ومشروعها المتعدِّد الوجوه شمالًا. وإذا كان العرب باندفاعتهم تجاه سوريا، يتلون فعل النّدامة على تخلّيهم عن العراق بعدما وضعته الولايات المتحدة بين أنياب إيران لتفعل به ما تشاء، فَهُم باندفاعتهم سوريًّا لم يتمكنوا أقلّه من التوازن لا تجاه إسرائيل وعدوانها، ولا تجاه تركيا وأطماعها.

مأزق نظام الاعتدال العربي، الذي أُخليت أمامه الساحة بعد هزيمة إيران الاستراتيجيّة في سوريا والمنطقة، أنّه لا يمتلك مشروعًا حقيقيًّا يؤمِّن المصالح الاستراتيجية للدول والشعوب العربية عامّة، وقد تجلّى ذلك في كثير المحطات على امتداد الخريطة العربية من السودان وليبيا واليمن ولبنان وسوريا وليس فلسطين وغزّة فقط، وأنّ غالبية المواقف العربية تقوم على ردّة الفعل غيْر المتكافئة. لقد هُدِمَت "جبهة الصمود والتصدي"، من دون بناء المشروع الاستراتيجي لمنظومة الاعتدال العربي التي تجد نفسها اليوم وجهًا لوجه أمام سياط الجلّاد الأميركي أو الحليف القديم الجديد دونالد ترامب.

قبل دخوله البيت الأبيض، تحدّث "ترامب الثاني" عن الجحيم الذي ستلقاه غزّة إذا لم يتحرّر الرهائن. بعد جلوسه على كرسي البيت الأبيض، سارع "ترامب الثاني" إلى نشر غطرسته وإهاناته وتهديداته يمنةً ويسرةً انطلاقًا من رفع التعريفات الجمركية أوروبيًّا، ثم عزمه على ضمّ كندا وغرينلاند وقناة بنما، مُحْدِثًا عاصفةً من الفوضى المهدّدة لاقتصادات حلفائه الأوروبيّين أوّلًا، وجيرانه في أميركا الشماليّة ثانيًّا، وبقطع المساعدات عن مِصر والأردن إذا لم تستقبلا فلسطينيي غزّة في سياق خطته للسيطرة عليها ثالثًا.

ستجد إيران نفسَها أمام استدراجٍ للتضحية بالمشروع النووي من دون أن تعرف ماذا يُخبِّئ "مِكبَس" ترامب الثاني

وبدراماتيكية لافتة، أبدع "ترامب الثاني"، في استدعاء التاريخ الأسوَد لبلاده المتمثِّل بإبادة سكان وأصحاب الأرض الأميركية الأصليّين. وبالسّرعة إيّاها تجاهَل العالم مصيبة "الهنود الحمر"، وطبّع علاقاته مع السيّد الأميركي الجديد في صعوده باتجاه كرسي السيطرة والتحكّم في العالم. وإذ ذاك، بدا العالم مفتونًا بمنظومة القيم والحياة الأميركية. وتحوّل نشر الدّيموقراطية والدفاع عن حقوق الانسان إلى قيمٍ تتحرّك لأجلها البوارج والأساطيل الأميركية، فتغزو هذا البلد وتقوّض ذاك وتنشر الفوضى حيثما وكلّما اقتضت المصالح الأميركية ذلك.

إذن، دشّن "ترامب الثاني" عهده بسلسلة قراراتٍ منفلتة الضوابط من "خارِج الصندوق"، فأثارت عاصفةً من الوجوم النّاجم عن عدم إدراك ما تحتويه مفاجآت "مِكْبَس" خارج الصندوق. ثمّ أطلّ بعاصفة عقوبات ضد جنوب أفريقيا تبدأ بقطع المساعدات عنها ولا تنتهي برفع التعريفات الجمركية على وارداتها، وعلى منوال جنوب أفريقيا يُرجَّح أن يطلق ترامب صواريخ قرارته ضدّ الجزائر بوصفها آخر "عنقود" جبهة الصمود والتصدي، والمتمسّكة لأبعد الحدود بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

قرارات ترامب تُشكِّل استراتيجية لهزّ عروش "عرب الاعتدال"

لكنّ القرار الترامبي الأكثر إثارة للجدل ولسخط العالم كلّه، فهو "السّيطرة على قطاع غزّة"، وتهجير شعبه باتجاه الأردن ومصر وغيرهما. ببساطة متناهية ذهب "ترامب الثاني" من دون مواربة إلى "مِكبَس" تصفية القضية الفلسطينية، التي مهّد لها في سياق مشروعه لـ"صفقة القرن" بنقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترافه بها "عاصمةً أبديةً لإسرائيل"، وبالجولان السوري المحتل "جزءًا من السّيادة الإسرائيلية".

من دون شك، ساهم التغوّل الإيراني في البلاد العربية، تحت شعار "سنصلّي في القدس"، في ضرب الأمن القومي العربي وتقويض القضية الفلسطينية، حيث بيّنت الوقائع الميدانية أنّ "طريق القدس" الإيرانية تمرّ في بغداد والموصل والفلوجة وحلب وحمص ودمشق... وعندما وجد دهاقنة إيران ومرشدها وجنرالاتها أنفسهم وجهًا لوجه أمام القدس بلعوا ألسِنَتَهم، وسحبوا من التداول شعارهم الصّوتي "قادرون على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، وبدأوا بعد تدمير غزّة، وخسارتهم في لبنان، وهزيمتهم في سوريا، في قتال تراجُعي دفاعًا عن النظام أوّلًا، والمشروع النووي ثانيًا. وبتفعيل عقوبات الضغط الأقصى ستجد إيران نفسَها أمام استدراجٍ للتضحية بالمشروع النووي، من دون أن تعرف بدقة ماذا يُخبِّئ "مِكبَس" ترامب الثاني من "قرارات خارج الصندوق".

كانت لافتة مغادرة نتنياهو مربّع الديبلوماسية مع السعودية والتّهديد بكسر أيّ سيف يُرفع بوجه إسرائيل

قرارات ترامب، خصوصًا تجاه تهجير الفلسطينيين والسيطرة على غزّة، تُشكِّل استراتيجية إعلامية تقوم على الاستخفاف والتلاعب بالعرب ومقدّساتهم، لجعل تداول مصطلح "تهجير الفلسطينيين" أمرًا عاديًّا وليس من المحرّمات. إنّها استراتيجية هزّ عروش "عرب الاعتدال" الذين يجدون أنفسهم اليوم في زاوية الزّاوية، فما كان بالأمس خطرًا على الأمن القومي العربي، بات اليوم خطرًا على الأمن الداخلي للدول المستهدَفة باستقبال أهالي غزّة.

استراتيجية ترامب المجنونة وغير المنطقيّة والمرفوضة ستفتح النّقاش بين العرب ومصر ومشروعها لبناء غزّة من دون تهجير أهلها، وبين رجل الصفقات والتطوير العقاري، بما يؤدّي إلى تدوير زوايا إملاءات ترامب من دون إلغائها. فما قرّره ترامب لن يكون بكلّ حال فقاعة هواء، بل سيدخل في صلب الاستراتيجية الإسرائيلية، فكم كانت لافتة مغادرة نتنياهو مربّع الديبلوماسية مع السعودية (التي ستحتضن قمّةً بين بوتين وترامب) والتّهديد بكسر أيّ سيف يُرفع بوجه إسرائيل. وإذ تكسّرت سيوف العرب، لم يبقَ إلّا مصر وجيشها وسيف السعودية فوق رايتها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن