لا تزال تداعيات الحرب الاسرائيليّة الأخيرة على لبنان ترخي بظلالها مع تعمد الاحتلال البقاء في عدد من المواقع الاستراتيجيّة داخل الاراضي اللبنانية بحجة "الحفاظ على أمن مستوطناته"، ما يعني أن الانسحاب الشامل الذي تسعى اليه الدولة اللبنانية وحشدت من أجله جهودها واتصالاتها سيبقى "ناقصاً"، رغم انتهاء المهلة الثانية المُحدّدة فجر اليوم، الثلاثاء. وهذا ما سيضع العهد الجديد والحكومة الحديثة الولادة في مواجهة علنية ومأزق سيسهم في اعاقة انطلاقتها وتنفيذ بند اعادة الاعمار الذي تضعه ضمن أولوياتها القصوى.
وعليه، سيترقب لبنان ما ستؤول اليه الجهود الديبلوماسيّة المقبلة خاصة أن رئيسيّ الجمهورية والحكومة أكدا علنية رفض اي وجود اسرائيلي في لبنان والالتزام بتطبيق القرارات الدولية الآيلة لحفظ الاستقرار والامن في البلاد، وهو ما عكسه فعلاً البيان الوزاري الذي أُنجز بالكامل وحظي بالموافقة على أن يتم عرضه على البرلمان للحصول على الثقة. ويلاقي البيان التغيرات الداخلية الحاصلة لجهة التأكيد على دور الدولة "واحتكارها لحمل السلاح وبسط قوتها حصراً"، مسقطاً للمرة الاولى منذ عام 2000، البند المتعلق بـ"المقاومة". في وقت لم تغب القضايا الاقتصادية والمالية الاساسية عن جوهر البيان الذي شدّد على "اصلاح الدولة وتحصين سيادتها".
وقبل تنفيذ الانسحاب "المنقوص"، عمد العدو الاسرائيلي إلى تنفيذ سلسلة غاراتٍ شملت مناطق عدّة، كما قامت قواته بتنفيذ تفجيرات للأبنية والممتلكات في العديسة وميس الجبل وتوغلت قوة عسكرية في بلدة كفرشوبا مدعومة بدبابات وجرافات عسكرية. ولم تلتزم تل ابيب بالاتفاق المبرم، منذ اليوم الاول، بل عمدت الى خرقه مراراً وتكراراً. وفي التطورات ايضاً، استهدفت مسيّرة إسرائيليّة سيارة القيادي في حركة "حماس" محمد شاهين. ووفق وسائل الإعلام الإسرائيليّة، فإن شاهين كان مسؤولاً عن توجيه عمليات الضفة الغربية، وكان يُعرف بقربه من القيادي في الحركة صالح العاروري، الذي اغتالته إسرائيل بداية 2024. وكانت سرت معلومات مفادها أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو خرج من جلسة محاكمته أمس، والتي كانت صاخبة، 10 دقائق للمصادقة على الغارة.
الاستهداف الاسرائيلي لـ"حماس" ترافق مع قرار وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس تنفيذ مقترح ترامب عبر إنشاء إدارة خاصة في الوزارة لتهجير أهالي قطاع غزّة "طوعاً". ووفق الخطة المزعومة، فإن تمكين الفلسطينيين من "المغادرة الطواعية" مقابل "تقديم مساعدات واسعة النطاق تسمح لأي مقيم في القطاع يرغب في الهجرة إلى دولة ثالثة، بالحصول على دعم يشمل ترتيبات مغادرة خاصة عبر البحر والجو والبر، من بين أمور أخرى". وستشكل هذه الخطوات المزيد من الضغوط على سكان القطاع المنكوب بظل العرقلة المتعمدة لادخال المساعدات، ولاسيما الاساسيّة والاغاثيّة منها، في نقض واضح للاتفاق المبرم.
ومنذ طرح المخطط الاميركي يسعى رئيس الوزراء الاسرائيلي الى تأكيد التزامه بمضمونه والسعي لتحقيقه وهو ما يعرقل البدء في مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار. فيما تحاول الدول العربية، التي وجدت نفسها في أتون هذه المخططات الخطيرة، الى توحيد موقفها والخروج بمقترحات مضادة تؤكد رفض التهجير مع ضمان اعادة الاعمار وفق خطة ستكون مدار بحث خلال قمة الرياض التي تُعقد يوم الخميس تمهيداً للقمة الموسعة في القاهرة، والتي يمكن أن يطرأ على موعد انعقادها بعض التغيير.
وتمثل مسألة انخراط "حماس" في مستقبل إدارة غزّة معضلة محلية وإقليمية ودولية بظل رفض اميركي اسرائيلي وغياب البدائل، خاصة أن السلطة الفلسطينية بدورها لا تحظى بالموافقة ايضاً ما يعني غياب اي خطة بشأن "اليوم التالي". وضمن السيّاق، قالت مصادر من الحركة لـ"الشرق الأوسط" إن "التقديرات داخل صفوف قيادات "حماس" كانت تذهب إلى إجراء انتخابات بعد سريان وقف إطلاق النار، إلا أن الهدنة الهشة دفعت الحركة إلى تأجيل انتخاب رئيس لمكتبها السياسي العام".
وكان نتنياهو أكد أمس "التزامه خطة الرئيس الأميركي ترامب لإنشاء غزّة أخرى"، متعهداً أنه بعد الحرب "لن تتولى لا "حماس" ولا السلطة الفلسطينية الحكم في القطاع. الى ذلك، نقلت عدة وسائل اعلامية إسرائيلية معلومات مفادها أن مفاوضات مكثفة تُجرى حاليا، إذ تسعى تل أبيب إلى تسلم جثامين 4 محتجزين يوم الخميس، و6 محتجزين "أحياء" يوم السبت، فيما سيتم الافراج عن كافة النساء والقاصرين الذين اعتقلتهم من قطاع غزّة بعد أحداث 7 أكتوبر.
وبعد القدس، حط وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في المملكة العربية السعودية، التي تشهد اليوم على بدء الاجتماعات التحضيرية للقمة المرتقبة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وذلك غداة اتفاقهما على بدء محادثات سلام حول أوكرانيا، بحضور ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان. كما يحمل روبيو في جعبته ملفات عديدة تهدف لتعزيز التعاون الثنائي كما بحث المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة.
تزامناً، وصل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ومستشار السياسة الخارجية للرئيس فلاديمير بوتين، يوري أوشاكوف، إلى الرياض، مساء الاثنين. واستبق لافروف بدء اي محادثات بشأن أوكرانيا بالتأكيد على عدم التنازل عن اي أراضٍ لكييف، على الرغم من أن موسكو تسيطر على ما يوازي 20% من مساحة أوكرانيا حالياً. كما اعتبر انه لا يوجد أي دور لأوروبا على طاولة التفاوض. وتثير اللقاءات الثنائية حفيظة دول الاتحاد الاوروبي التي تتخوف من ان يكون الاتفاق على حساب اوكرانيا ووحدة اراضيها ويكرسها كمهزوم مقابل تعزيز دور روسيا و"انتصارها"، في وقت تمر علاقتها بواشنطن بمرحلة شديدة الحساسية والدقة، ما يضعها في موقف دفاعي عن أمنها الجماعي ويدعوها للتوحد لمواجهة القرارات الاميركية دفاعاً عن مصالحها.
في غضون ذلك، طالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"ضمانات أمنية قوية"، معتبراً "أي قرار من دون مثل هذه الضمانات - مثل وقف إطلاق نار هش - لن يكون سوى خداع آخر من جانب روسيا وتمهيد لحرب روسية جديدة ضد أوكرانيا أو دول أوروبية أخرى". علماً أن زيلينسكي يستعد لزيارة السعودية غداً، الاربعاء، في اطار زيارة رسمية "مُخطط لها منذ فترة طويلة"، بحسب ما أوردته "وكالة الصحافة الفرنسية".
الأحداث الفلسطينية وتداعياتها على الدول العربية تصدرت اهتمامات الصحف العربية، والتي تمحورت حول رفض المخطط الاميركي الداعي لتهجير الفلسطينيين وتوحيد الصفوف ورصها. ونلخص أبرز ما ورد اليوم:
رأت صحيفة "عكاظ" السعودية، في مقال، أن "أمريكا لم تتعلم من أن القوة لم تحقق لها نصراً في فيتنام أو في أفغانستان أو في العراق، ومع ذلك لا تزال تصر على الوقوف في الجانب الخاطئ من التاريخ"، لافتة الى أنه "أمام القمة العربية وأمام القمة الإسلامية والقمة الأفريقية (بصفتهم المستهدفين بالمشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين) بأن يرفعوا سقف بيانات هذه القمم مجتمعة أو متفرقة"، حتى لا يتم تصفية القضية الفلسطينية.
بدورها، اعتبرت صحيفة "الوطن" البحرينية أن "العرب يحتاجون كثيراً إلى التغاضي والتغافل عن أي اختلافات أو خلافات فيما بين دولهم، والتفرغ التام لمواجهة مساعي تهجير الفلسطينيين القسري من أرضهم"، مشددة على أن "القمة الطارئة (التي ستعقد في القاهرة) لن تقف نتائجها عند فلسطين أو غزّة فقط، ولكنها سترسم ملامح المستقبل لأمتنا العربية، وتعيد صياغة علاقات العرب مع المجتمع الدولي من جهة، وأيضاً علاقات الدول العربية مع بعضها البعض من جهة أخرى".
ووضعت صحيفة "الغد" الاردنية زيارة الملك عبدالله الثاني الى واشنطن في اطار "التمرين الوطني بالذخيرة الحية، حيث أغلق الباب الأردني الكبير في وجه كل المحاولات والضغوط لثني الأردن عن موقفه الصلب في رفض التهجير والتوطين". وتابعت: "أصبحت لدينا أردنيين وفلسطينيين سردية واحدة وظاهرة عنوانها الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين. وخيار وطني موحد هدفه تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، وصيانة الوطن الأردني الواحد؛ دولة وهوية لذاتها وبذاتها، لا مشروعا أو خزانا على ذمة التهجير والتوطين".
من جهتها، أوضحت صحيفة "القدس العربي" أنه "وإذا كانت جلّ أسابيع وأشهر حرب الإبادة الاسرائيليّة اقترنت بمساندة مطلقة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، فإن إدارة ترامب فاقت في الدعم توقعات ساسة الاحتلال أنفسهم". وقالت: "لا عجب أن اليوم 500 سجّل استلام الجيش الإسرائيلي دفعة من قنابل "إم كي 84" الأمريكية الثقيلة. هنا أيضاً تتواصل حرب الإبادة وتتمدد"، على حدّ تعبيرها.
على المقلب الآخر، أكدت صحيفة "اللواء" اللبنانية أن عدم الانسحاب الاسرائيلي من المواقع الخمس الاستراتيجة الهدف منه "تأمين الأجواء النفسية المناسبة لإعادة سكان المستوطنات الإسرائيلية إلى بيوتهم، وإشعارهم بأنهم بحماية الجيش الإسرائيلي المتواجد على التلال المشرفة على قراهم، على إمتداد الشريط الحدودي الفاصل بين الجانبين". وأردفت: "ما يجري اليوم هو أول الغيث بفرض سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. فهل الطرق سالكة وآمنة أمام مسيرة عودة الدولة للوصول إلى نهاياتها السعيدة؟".
وأشارت صحيفة "الراية" القطرية الى أن الدوحة "تتبنى موقفًا مبدئياً وثابتاً حول القضايا والصراعات التي تعصف بالمنطقة العربية. انطلاقاً من ذلك تأتي المواقف القطرية الداعمة للدولة والشعب اللبناني عبر تقديم كافة أشكال الدعم السياسي والاقتصادي، حرصًا على أمن واستقرار الجمهورية اللبنانية". وأضافت: "الدعم القطري المستمر للبنان أسهم -في العديد من المحطات- بتحقيق المصلحة الوطنية وكان شريانَ الحياة الذي امتد في أحلك الظروف".