أفسحت هذه المُحدِّدات، المجال لعدد من القوى الإقليمية والدولية للإمساك بزمام الأمور وتوجيه الدفّة باتجاهٍ لا يخدم مصالح المنطقة وشعوبها، التي أضحت مرةً أخرى ضحيةً لجيل جديد من الحروب والاضطرابات المرتبطة بالإسلام السياسي وموجات الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها المنطقة خلال العقد الأخير، والتي كانت سببًا في انهيار الأنظمة السياسية لعدد من الدول العربية ودخول بعضها في حروب أهلية ما نزال نعيش فصولها الدامية إلى حدود الساعة.
الأوضاع المتردّية كانت سببًا في استشراء الفساد الإداري والقضائي في ظلّ حضور صوَري للمؤسَّسات الديموقراطية
لقد خلّف هذا الوضع غير المستقر سياسيًّا واقتصاديًّا آثارًا مدمِّرة في المنطقة، تراوحت بين تدنّي معدلات النّمو الاقتصادي لعقود طويلة، وتدهور قيمة عملات بعض الدول العربية، واحتلال عدد كبير منها لمراتب متدنّية على مختلف مستويات التنمية البشرية كما عرّفتها الأمم المتحدة، ناهيك عن التردّي الذي تعرفه البنى التحتية والخدمات جرّاء تعاقب الحروب والنزاعات المسلحة الداخلية؛ أضف إلى ذلك الفاتورة البشرية التي دفعتها ولا تزال المنطقة سواء على مستوى عدد القتلى والجرحى والمعطوبين واللاجئين والمهاجرين لأسباب اقتصادية وسياسية، وهو ما ساهم في تآكل سريع للموارد البشرية المؤهلة وغير المؤهلة، الأمر الذي انعكس على أداء عدد من القطاعات الاقتصادية الحيوية، وتسبّب في خسائر كبيرة وقلّص من الجاذبية الاستثمارية.
ولا مندوحة، في هذا السّياق، من التذكير بأنّ هذه الأوضاع المتردّية كانت سببًا في استشراء الفساد الإداري والقضائي، وذلك في ظلّ حضور صوَري للمؤسَّسات الديموقراطية والتمثيلية في معظم هذه الدول، وهو أمرٌ أصبح أكثر حدّة في الأنظمة ذات الخلفية العسكرية.
ماذا خسر اتحاد المغرب العربي؟
لقد أفرز هذا الوضع سياقًا سياسيًّا متشنّجًا بين معظم الدول العربية، نجم عنه تعطيل آليات التعاون الاقتصادي البيني، فعلى سبيل المثال لا الحصر، انخفضت المبادلات التجارية بين المملكة المغربية والجزائر إلى حدودِها الدّنيا سنة 2024، وذلك عقب قرار الحكومة الجزائرية بشكلٍ أحادي قطع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية مع الرّباط سنة 2021، حيث لم تعد المبادلات التجارية تتجاوز سقف 250 مليون دولار حسب معطيات وزارة الاقتصاد المغربية، ما يعني انخفاضًا حادًّا اقترب من 65 في المئة، وهو أثرٌ اقتصاديٌ سلبيٌ امتدّ ليُلقي بظلاله على العلاقات الاقتصادية بين بقية دول اتحاد المغرب العربي، حيث لم يتجاوز حجم المبادلات التجارية بين المغرب وبقية بلدان الاتحاد خلال السنة الماضية مليار دولار فقط، وهو رقمٌ ضعيفٌ جدًّا مقارنةً بحجم المبادلات مع الاتحاد الأوروبي التي اقتربت قيمتها من 70 مليار دولار، و25 مليار دولار مع آسيا حسب معطيات الوزارة ذاتها خلال الفترة نفسها.
دعم الجبهة الانفصالية خلّف خسائر جسيمة للاقتصاد الجزائري والنزاع حول الصحراء تسبّب بِشَلّ الاقتصاد المغربي
تجدر الإشارة إلى أنّ الآثار الاقتصادية للنّزاع بين الرّباط والجزائر على خلفية ملفّ الصحراء لم تقتصر فقط على البُعد الإقليمي أو العربي، بل امتدّت لتؤثِّر في العلاقات الاقتصادية لهذين البلدين مع جيرانهما في أوروبا، فقد أدّى السعي الجزائري لدعم الجبهة الانفصالية عبر ضغط اقتصادي على الدول الداعمة للمواقف المغربية كفرنسا وإسبانيا إلى تراجع المبادلات مع هذين البلدين اللذين يُعدّان الشريكين الاقتصاديين الرئيسَيْن للجزائر، وهو ما خلّف خسائر جسيمة بالنسبة للاقتصاد الجزائري يُضاف إليها الخسائر النّاجمة عن سباق التسلّح والدعم المستمر للجبهة الانفصالية الذي استنزف قدرًا كبيرًا من الموازنة العامة.
في المقابل، يُرتقب على المديَيْن القصير والمتوسّط أن يتضرّر الاقتصاد المغربي جرّاء تبنّي محكمة العدل الأوروبية لموقف قريب من التوجّهات الجزائرية، بموجبه تمّ تعطيل اتفاقية الفلاحة والصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي، عِلمًا أنّ السّوق الأوروبية كانت وما تزال تقتني معظم الإنتاج الزراعي والسمكي المغربي، وهو ما بات يفرض البحث عن أسواق بديلة لن تعوِّض بأي شكل من الأشكال الأسواق الأوروبية القريبة جغرافيًا من المغرب، وهي خسائر تُضاف إلى ما سبق للمملكة المغربية أن تكبّدته من خسائر بشرية خلال حروبها المرتبطة بالنزاع حول الصحراء. وهو النزاع الذي تسبّب في مراتٍ عديدة بِشلّ الاقتصاد المغربي أو على الأقلّ إبطاء وتيرة نموّه، بخاصّة خلال ثمانينيّات القرن الماضي، حين أدّت حرب الصحراء المستعرة آنذاك وموجة الجفاف التي استمرّت لأكثر من ثلاث سنوات وتراجع أسعار الفوسفات وارتفاع أسعار المحروقات عقب اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية، إلى دخول المغرب في أزمة اقتصادية غير مسبوقة عُرفت آنذاك بـ"السّكتة القلبية" جرّاء التضخم، وتآكل احتياط النقد الأجنبي واستنزاف الموازنة، وعدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها الماليّة خصوصًا على مستوى دعم المنتجات والخدمات الأساسية، الأمر الذي كان سببًا في اندلاع موجات من الاحتجاجات خلّفت آلاف الضحايا والمعتقلين، وفرضت حينها على الحكومة المغربية التّراجع عن قراراتها، كما عجّلت برضوخ المغرب لتوجيهات المؤسّسات المالية الدولية التي فرضت قيودًا شديدة على توجهاته الاقتصادية.
(خاص "عروبة 22")