في هذا التقرير، سنحاول مناقشة بعض الأسباب المحتملة لهذه الظاهرة، مع محاولة تسليط الضوء على العوامل السياسية والإدارية التي يبدو أنها تلعب دورًا أكبر من الأسُس الاقتصادية الكلاسيكية.
يُعتبر التدخّل المباشر للدولة في تحديد أسعار الصّرف أحد أهمّ الأسباب التي تُفسِّر هذا الارتفاع الظاهري. ففي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، لجأت الحكومة السورية إلى آلياتِ تَحَكُّمٍ صارمةٍ في سوق الصَّرف من خلال تحديد أسعار صرف رسمية تختلف عن تلك التي تُعرض في السوق السوداء أو السوق الموازية.
ويُعتقد أن هذا التلاعب في أسعار الصّرف له أهداف سياسيّة تتمثل في تقديم صورة إيجابية عن الاقتصاد أمام الجمهور المحلي والدولي، حتى وإن كانت المؤشرات الاقتصادية على أرض الواقع تشير إلى تراجُع في القدرة الشرائية وفقدان الثقة في النظام المالي.
وتؤكّد تقارير من صندوق النقد الدولي أنّ تدخّلات السلطات النقدية في بعض الدول النامية يمكن أن تؤدي إلى تفاوت كبير بين الأسعار الرسمية وأسعار السوق الحرة، مما يخلق انطباعًا زائفًا عن استقرار العملة في سوريا، كما يُمكن اعتبار ارتفاع الليرة نتيجةً لتلك التدخّلات المتعمّدة التي تهدف إلى كبْح أي تقلبات، تُعرّض صورة الدولة للخطر.
الترويج.. والاقتصاد الموازي
يُعدّ الترويج الوطني والسياسي أحد العوامل التي لا يمكن إغفالها. ففي ظلّ الظروف الاستثنائية التي تعيشها الإدارة السورية الجديدة، تُستخدم السياسات الاقتصادية كأداةٍ لتعزيز الثقة في القيادة ونشر صورة من الاستقرار الاقتصادي، بغضّ النظر عن الواقع الاقتصادي المُرّ.
إذ يتمّ تسليط الضوء على ارتفاع الليرة كرمزٍ للسيادة والاستقلال الاقتصادي، ممّا يساعد على بناء سرد سياسي يخدم الاستقرار واستعادة ثقة الاستثمارات على الصعيد الداخلي والدولي، وتُظهر هذه الاستراتيجية رغبةً في استغلال عامل الارتفاع النّسبي للعملة للتأكيد على قوّة السيادة الوطنية على الرَّغم من الضغوط الاقتصادية التي يعيشها البلد.
ولا يمكن إغفال الدور الكبير الذي يلعبه الاقتصاد الموازي في تحديد أسعار الصّرف الحقيقية في سوريا. فالأسواق الموازية غالبًا ما تعكُس واقع العرض والطلب الحقيقي للعملة في ظل غياب الثقة في الأسعار الرسمية. وعلى الرَّغم من أنّ الأسعار الرسمية قد تُظهر ارتفاعًا في قيمة الليرة، إلّا أنّ معدّلات السوق السوداء تشير إلى تراجع كبير في القوّة الشرائية للعملة، ويُعدُّ وجود سوق موازية نتيجةً لعدّة عوامل من بينها القيود الصارمة على تداول العملات الأجنبيّة، والرّقابة المُفرطة على التحويلات البنكيّة. وهذا يخلق فجوةً بين السعر الرسمي والسعر الحقيقي الذي يحدّده العرض والطلب في الأسواق غير الرسمية. ومن هنا يتبيَّن أن الارتفاع الرسمي ليس نتيجةً لتحسُّن اقتصادي حقيقي، بل هو جزء من استراتيجية إدارية بحتة تهدف إلى إخفاء الأبعاد الاقتصادية السلبيّة.
يمكن اعتبار ارتفاع الليرة نتيجةً لسياسات تهدف إلى السيطرة على التدفّقات النقدية، حتّى وإن كانت هذه السياسات لا تعكسُ صحة الاقتصاد الكلّي. وتُظهر التحليلات الاقتصادية أنّ مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تحريف مؤشرات الأداء الاقتصادي الحقيقية.
وفي حال بقيت العقوبات الاقتصادية مفروضة على سوريا سيبقى من الصعب على المستثمرين المحليين والأجانب اتخاذ الخطوة في اقتحام سوق الاستثمار في البلاد.
هذه الظاهرة ليست جديدة على الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية حادّة إذ يُلاحظ أنّ بعض الحكومات تعتمد على آليات نفسيّة للتأثير في سلوك المستهلكين والمستثمرين، بغضّ النظر عن الأوضاع الاقتصادية الواقعية، ويمكن رؤية ذلك من خلال التأكيد المتكرر على أن ارتفاع الليرة يُعدّ مؤشرًا إلى الاستقرار والسّيادة الوطنية، ومع ذلك فإنّ هذا التلاعب النفسي قد يؤدّي إلى تفاقم الأزمة على المدى الطويل، حيث يتم إخفاء المشاكل البنيوية التي تتطلّب إصلاحات جذرية.
يتّضح من خلال التحليل السابق أنّ ارتفاع الليرة السورية أمام الدولار لا يمكن تفسيره بمبرّرات اقتصادية تقليدية فقط، إذ إنّ التحكّم في أسعار الصّرف الرسمية، واستخدامها كأداة دعائية، فضلًا عن القيود المفروضة على الاقتصاد الموازي، كلّها عوامل ساهمت في خلْقِ صورة متناقضة عن الوضع الاقتصادي في سوريا. هذه السياسات، وإنْ كانت قد تُعطي مظهرًا من الاستقرار على المدى القصير، إلّا أنّها تخفي واقعًا اقتصاديًّا مريرًا قد يؤدّي إلى تداعيات سلبيّة على المدى الطويل.
ففي ظلّ تأخر إعادة الإعمار، ومسارعة الدول إلى مساعدة الإدارة السورية الجديدة في الإصلاحات الاقتصادية الجذرية والتحوّلات الهيكلية الضرورية، يبقى ارتفاع الليرة ظاهرةً سطحيةً لا تعكس صحة الاقتصاد الكلّي. ومن هنا تظهر الحاجة إلى رؤية شاملة لإصلاح الاقتصاد السّوري تُركّز على تعزيز الثقة في السوق الحقيقية، وتحسين الشفافية في السياسات المالية والنقدية.
على المستوى الدولي، يُعدّ هذا الوضع دليلًا على التحديات التي تواجهها البلاد في مرحلة قد تكون الأهمّ والأخطر لرسم مستقبل سوريا الاقتصادي، لتحقيق استقرار حقيقي ومتصاعد، ويتّضح أن ارتفاع الليرة السورية أمام الدولار هو نتيجةٌ لعوامل مُركّبة تتضمّن تدخلات حكومية متعمّدة، واستراتيجيات دعائيّة، وتحريفًا لأسُس السّوق الحقيقية. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى المزيد من التشوّهات الاقتصادية على المدى البعيد، ممّا يستدعي إعادة النّظر في السياسات الاقتصادية والمالية المتّبعة.
من الضروري أن تتبنّى السلطات السورية الجديدة رؤية إصلاحية شاملة تضمن شفافية وواقعية أكبر في تحديد الأسعار واتخاذ القرارات الاقتصادية، وهو ما قد يساعد على بناء نظام اقتصادي وتحقيق استقرار حقيقي ومُستدام.
(خاص "عروبة 22")