متعة دونالد ترامب بتربعه على رئاسة أهم دولة في العالم وبقدراته المدهشة في هذا المنصب أعمته عن مسألة حيوية للولايات المتحدة الأميركية، وهي: الهيبة. تداعيات فقدان الهيبة ليست أمراً عابراً لأنها تشمل المصالح الأميركية الجيوسياسية وتشجع على التطاول الاستراتيجي على الولايات المتحدة فيما الرئيس المزهو بنفسه يرتجل السياسة ويستخدم التوبيخ والتحقير والتحجيم أدوات لإعادة اختراع نظام عالمي بعنوانٍ وحيد هو العظمة الأميركية.
الخطير هو أن دونالد ترامب لا يمزح فيما يُضحِك البعض باعتماده فن البهورة، ويُربك بتبنيه أسلوب المفاجأة غير المعتادة، ويصدم بسياسات غير مدروسة يطلقها بسقف عالٍ ويضعها في سلّة الصفقات. الخطير هو أن تلك البهورة الترامبية بدأت تقضم من الهيبة الأميركية الضرورية للاحتفاظ بالمكانة المميزة للولايات المتحدة. من غزة والعلاقات الأميركية- العربية، إلى أوكرانيا والعلاقات الأميركية- الأوروبية والأميركية- الروسية، إلى الداخل الأميركي الذي يتململ بدوره من الثرثرة والارتجالية، دونالد ترامب بدأ يواجه التصدّي لسياساته وأساليبه، وبدأت هيبته تنحسر كما هيبة الولايات المتحدة الأميركية.
لنبدأ بإعطاء الرئيس الأميركي شهادة على جرأته وحنكته في سحب البساط من تحت الأقدام وفي التقدم بأفكار خارج الصندوق ودفع الآخرين إلى التفكير بتجددية بدلاً من الاستمرار في الانزواء تحت عبء المعتاد والتقليدية. كسر الجليد والجمود في العلاقة الأميركية- الروسية الأسبوع الماضي أتى بإيجابيات عدة، لكنه أدّى كذلك الى تصدّع جدّي في العلاقات الأميركية- الأوروبية وفي صفوف حلف شمال الأطلسي، ليس بسبب الحرب الأوكرانية فحسب، وإنما نتيجة تلك البهورة والفوقية الترامبية.
مكان عقد الاجتماعات الرفيعة المستوى بين المسؤولين الأميركيين والروس كان ضربة معلّم لترامب أراد من ورائها توجيه رسائل عدة في آن. الرياض عاصمة مهمة جداً في حسابات الإدارة الجديدة في واشنطن وهي شريك استراتيجي مميّز، ليس فقط على المستوى الإقليمي، وإنما على مستوى العلاقات بين الدول الكبرى. الصين لعبت دوراً حيوياً في التقارب السعودي- الإيراني، الأمر الذي سبّب في البداية القلق للديبلوماسية الأميركية التي وجدت نفسها فجأة وراء الحدث والصين معاً، ثم استدركت وفتحت مع السعودية حديثاً جديّاً يأخذ الرياض ودورها ببالغ الجدية.
فريق ترامب وجد في الرياض شريكاً ضرورياً في الملفات الإقليمية، اعتقد في البداية أن تلك الشراكة بحد ذاتها ستؤدّي إلى سياسة سعودية مطابقة لما تمليه السياسة الأميركية. ردود فعل السعودية على الطروحات التي استبعدت حل الدولتين ونسفت قيام دولة فلسطينية فاجأت فريق ترامب. ثم أتت المواقف السعودية والخليجية الرافضة لأفكار ترامب الرامية إلى تهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً من الضفة الغربية وغزة، لتسكب الماء البارد على مشاريع ترامب الرامية إلى امتلاك شاطئ غزة.
الأسبوع المقبل ستصدر عن الرياض مواقف لها وللدول الخليجية ومصر والأردن لن تتخذ صورة استفزاز ترامب وإنما استيعابه. تدرك هذه الدول أن شراسة ترامب موجعة إذا زُجّ في الزاوية، ولذلك ستحاول أن تكون أذكى وأكثر حكمة من أساليب سابقة للدول العربية التي انطلقت تقليدياً من "نرفض وندين" من دون أن تقدم البدائل.
إنما، وللتأكيد، لم تكن الدول العربية بلا مبادرة، بل العكس، إن المبادرة العربية لحل النزاع العربي- الإسرائيلي ومن أجل السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وإنشاء دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان السورية مقابل الاعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل كانت في عام 2002، وأطلقتها السعودية.
اجتماع الرياض الأسبوع المقبل سيمهّد لموقف عربي شامل أثناء القمة العربية الطارئة في القاهرة قبل نهاية الشهر الجاري. إنه اجتماع محوري للعلاقات العربية- الأميركية كما للعلاقات الخليجية مع مصر والأردن والفلسطينيين، ونحو إسرائيل أيضاً. الأرجح أن يقدم اجتماع الرياض للرئيس الأميركي سلّم الهبوط من أعلى الشجرة، ليس فقط من خلال تبنّي المواقف غير التقليدية، وإنما أيضاً عبر تركه يشعر بأنه هو الذي يستحق الإطراء لأنه فرض على الجميع التفكير خارج الصندوق.
استضافة الرياض للمحادثات الأميركية- الروسية بعد سنوات من المقاطعة بسبب حرب أوكرانيا إنما أعطت بعداً دولياً للديبلوماسية السعودية التي تتسم بالهيبة والوقار. ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمّح إلى أنه يريد للرياض أن تصبح عاصمة الحوار، بوقار. وهذا ما حصل بين فريقيّ المحادثات في الرياض بعيداً عن نمط الشتائم والاستفزاز والتخوين والتهديد الذي سلك طريقه إلى تصريحات الرئيس الأميركي والرئيس الأوكراني وعدد من القادة الأوروبيين. ماذا حدث، إذن؟ وأين نحن؟
على صعيد العلاقات الأميركية- الروسية، تم الاتفاق الجزئي على استئناف العلاقات الديبلوماسية، وعلى إقامة "آلية تشاور" لمعالجة نقاط التوتر والخلاف في العلاقة الثنائية. وافق الطرفان على تعيين فرق رفيعة المستوى لبدء العمل نحو إنهاء النزاع في أوكرانيا بأسرع ما يمكن وبصورة دائمة ومقبولة لجميع الأطراف، ثم وضع الأسس للتعاون المستقبلي على الصعيد الجيوسياسي وفرص الاستثمار والتعاون الاقتصادي الذي سينبثق من إنهاء النزاع في أوكرانيا.
هذه تعهدات وبدء عملية، وليست نقلة نوعية، لا في العلاقة الثنائية ولا نحو أوكرانيا، لأن المسافة ما زالت بعيدة فعلياً. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس جاهزاً للاجتماع مع نظيره الأميركي بسبب الخلافات الجوهرية في شأن أوكرانيا، وبسبب الاختلاف على طبيعة أجندة اللقاء. المصادر المطّلِعة تؤكد أن الرئيس بوتين يريد للقمة أن تكون بناءً على أجندة موسّعة متفق عليها قبل اللقاء، فيما الرئيس ترامب يريد الاكتفاء بالتفاهمات الشفوية بعيداً عن توقيع اتفاقيات، لا سيّما أن فريقه يعارض التوقيع. البعض في الفريق يخشى ما يعتبره ثرثرة خطيرة على لسان ترامب كلفتها باهظة على السياسة الأميركية. أحدهم أشار إلى ذلك "القطار السريع" الذي انطلق من البيت الأبيض إنما بات الآن "قطاراً محليّاً"، بسبب الطرق الترامبية في تناول السياسات الكبرى وكأنها فقط رهن رغباته وطموحاته.
ما فعله الرئيس ترامب هو أنه أعاد خلط الأوراق مع روسيا، لكنه لم يتوصل إلى النتيجة التي يريدها وهي: إيقاف الحرب الأوكرانية. تصرّف طبقاً لما يرتئيه باستبعاد أوروبا وأوكرانيا ذاتها، فوقع في ورطة لا يعترف بها بسبب إغراق نفسه في الغطرسة والعنجهية.
بوتين يتردد في اجتماع قريب مع ترامب لأنه يخشى المطبّات التي تتربّص له. مثلاً، وفي المسوّدة الأميركية غير الرسمية بشأن روسيا وأوكرنيا، هناك فقرة تنص على أن في حال انتهاك روسيا اتفاقية السلام مع أوكرانيا كما أعدتها الولايات المتحدة، تصبح أوكرانيا تلقائياً عضواً في حلف شمال الأطلسي (ناتو). وهذا أمر لا يتحمّله فلاديمير بوتين بل خاض حرباً لمنعه.
تقول المصادر المطّلِعة أن هناك 20 نقطة خلاف حيوية وحاسمة في المسوّدة من المستحيل معالجتها والتغلب على تناقضاتها، من بينها مسألة الأراضي، إذ أن ترامب يوافق على امتلاك روسيا الأراضي التي تسيطر عليها "الآن" في أوكرانيا، بينما بوتين يتمسّك بما تم إقراره "دستورياً" بضم روسيا مقاطعات دونيتسك وخيرسون ولوغانسك زابوريجيا، إلى جانب القرم.
فالطريق ليست معبّدة لاتفاق أميركي- روسي على أوكرانيا، بل إن أي اتفاق أميركي- روسي حول أوكرانيا لا شرعية له طالما ترفضه أوروبا وأوكرانيا نفسها. والطريق ليست سالكة نحو تطبيع أميركي- روسي طالما الحرب الأوكرانية مستمرة. الرئيس ترامب غاضب اليوم من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لأنه تهكّم عليه عندما قال إن ترامب وقع في فقاعة تضليل روسية، فقرر توبيخه علناً. وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو علّق قائلاً: "عندما نسمع اتهامات بالتضليل بدلاً من الامتنان، فإن ذلك يؤدّي الى نتائج عكسية للغاية. فترامب ليس من النوع الذي يتسامح مع هذا".
الانتقام وتلقين الدروس والتحقير الجماعي والاستبعاد المتعمّد أسفرت عن امتعاض أوروبي عارم من أساليب دونالد ترامب. اللافت أن استهتار ترامب بأوروبا وبدورها في أوكرانيا أدّى في البداية إلى ارتباك وتبعثر في صفوفها، ثم بدأ شد الأحزمة، ووجد الرئيس الأميركي نفسه أمام تماسك أوروبي في مواجهته، ضم إليه بريطانيا الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وذلك عشيّة انتخابات في ألمانيا ستقرر مصير القيادة في القارة الأوروبية.
ردود الفعل العلنية وغير المعلنة كشفت مدى الاستعداد الأوروبي لتحدّي الرئيس الأميركي على نسق أن ترامب يحتاج أن يعود إلى العالم الحقيقي، وليس ذلك الذي في مخيلته. أحد القادة الأوروبيين أشار إلى أن ترامب والترامبية عابران، أما أوروبا فإنها باقية. آخرٌ تحدّث عن بدء زوال الخوف من ترامب باعتباره الآن ليس بذلك القدر من الخطورة الجديّة لأن أقواله أكبر من أفعاله، شاء ذلك أو أبى، ولأن لا مناص من عودته إلى الواقع والواقعية.
أوروبا تدرك أن مقاومتها دونالد ترامب ستكون مكلفة لها، لكنها تعي أن لا مجال لخضوعها لإملاءات الرئيس الأميركي الذي يكاد ينعى العلاقات التاريخية لدول شمال الأطلسي. هناك من يقترح على أوروبا خيارات تبدو خيالية بقدر الطروحات الترامبية مثل الانسحاب من حلف الناتو، أو قطع الطريق على ترامب عبر الحديث مع روسيا مباشرة، أو عبر التقارب مع الصين. هذه الأفكار تعكس مدى الاستياء من أساليبَ غير مسبوقة في العلاقات الدولية، ومدى الاستعداد لتحدّيها.
جنون تفكير دونالد ترامب نحو غزة يقابله جنون فلاديمير بوتين نحو أوكرانيا. بوتين يريد من ترامب أن يعطيه أوكرانيا وهو يتمسك بعلاقته معه كي يدفعه الى سياسة أشرس مع أوروبا ومع أوكرانيا تساعده في نهاية المطاف على تحقيق طموحاته. ترامب يريد من الدول العربية أن تعطيه غزة وأن تعطي الضفة الغربية لإسرائيل، وهو يعتقد أنه سينجح لأن مصر والأردن في حاجة اليه ولأن العلاقة الأمنية الأميركية- الخليجية مهمّة للدول الخليجية، لا سيّما أمام وضوح تمسّك إيران بنهجها الإقليمي وعقيدتها النووية، ما سيتطلب عملية عسكرية ضدها تشارك فيها الولايات المتحدة الأميركية.
الصين تراقب وتتأهب لحرب ترامب الاقتصادية ضدها. لا تقلق من احتمال نجاح ترامب في استقطاب روسيا نحوه وإبعادها عنها لأنها ترى كل العراقيل أمام إنهاء الحرب الأوكرانية. تلك الجديّة التي سعى دونالد ترامب لأن يؤخذ بها دولياً، وفعلاً حصل عليها في البداية، باتت اليوم مهدّدة وذات هشاشة. فقدان الهيبة ليس مسيئاً فقط للرئيس دونالد ترامب بحد ذاته، وإنما للرئاسة وللولايات المتحدة الأميركية.
(النهار اللبنانية)