تقدير موقف

هل قرأتُم نائب الرئيس؟

هذا ليس مقالًا عن دونالد ترامب؛ الممثّل "الاستعراضي" الذي سكن البيت الأبيض ليشغل العالم كله يوميًّا بقراراته، وتصريحاته، و"فرقعاته"، فلم يعد هناك ما يُقال بعد أن انشغل الكلّ بالرجل كتابةً وقراءةً و"فرجةً" على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. هذا مقال عن نائبِه، الذي لم يلتفت إليه الكثيرون عندنا ربما لأنّ الصخب حول الرئيس وأفعاله لم تترك مجالًا لذلك، أو ربما لتأثّر البعض بالصورة الذهنية الباهتة لمن سبقه في المنصب، مكتفيًا بالوقوف "خلف الرئيس" في صوَر المكتب البيضاوي أو بالذهاب إلى الكنيسة ليدعو له.

هل قرأتُم نائب الرئيس؟

في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 1919 وقف أدولف هتلر، الذي أصبح زعيمًا للنازيّة ليلقي خطابه الأوّل المعروف، كان الخطاب في ميونيخ؛ المدينة الألمانية المحفور اسمها في التاريخ السياسي؛ ليس فقط الألماني، بل الأوروبي. في الرابع عشر من فبراير/شباط الحالي وقف جي دي فانس؛ نائب الرئيس الأميركي الشاب ـ المولود بعد انتحار هتلر ونهاية الحرب بأربعة عقود ـ في المدينة ذاتها "ميونيخ"، وأمام زعماء أوروبا جميعهم، ليهاجم حكوماتِهم، متّهمًا إياها بقمع تيارات اليمين المتطرّف (والتي هي وريثة النازيّة، بالمناسبة)، وذلك قبل أيام فقط من الانتخابات الألمانيّة الحاسمة، والتي من المفترض أن تجري اليوم الأحد.

ليس غريبًا أن يتماهى خطاب نائب الرئيس مع التغريدات اللاديبلوماسية لـ"ملياردير الرئيس" إيلون ماسك، والذي لم يتردّد فيها، على الرَّغم من منصبه الرسمي، في أن يتدخّل وبشكل سافر في الشؤون الداخلية لدول أوروبية كبرى "ذات سيادة".

يغيّر نائب الرئيس قناعاته كما يغيّر اسمه فهو شبّه ترامب في انتخابات 2016 بأدولف هتلر ووصفه بالأحمق

يقف نائب الرئيس الأميركي في ميونيخ يروّج لخطاب الكراهية، ولعداء الآخر "والمهاجرين" أوّلهم، متغافلًا عن حقيقة أنّ زوجته، والتي؛ كخبيرة في "الاستثمارات" رسَمت خطواته منذ اليوم الأول إلى ما صار إليه، تعود أصولها إلى أسرة هندية مهاجرة. ولكنه التلوّن... أو قُلّ "الميكيافيلية".

يغيّر نائب الرئيس قناعاته، أو بالأحرى المُعْلَن من قناعاته، كما يغيّر ملابسه، أو ربما كما يغيّر اسمه. قد لا يعلم الكثيرون أنّ اسمه الحالي "جي.دي فانس"، لا علاقة له بالاسم الذي وُلد به: "جيمس دونالد بومان"، منسوبًا إلى والده البيولوجي، ولا باسمه في سجلّات الولاية: "جيمس ديفيد هاميل"؛ نسبةً إلى عمّه ديفيد، ووالده بالتبنّي روبرت هاميل، كما تقول والدته، قبل أن يستقرّ (حاليًا على الأقلّ) على لقب فانس؛ الاسم الأخير للجدّة التي ربّته.

"ميكيافيلية" الشاب الثلاثيني الذي اختاره ترامب نائبًا للرئيس، أو قُل تناقضاته إن شئت، يدركها كلّ من تابع تاريخه الشخصي كما السياسي. فهو لم يكتفِ بعدم التصويت لصالح ترامب في انتخابات 2016. بل وشبَّهَهُ بأدولف هتلر ووصفه علنًا بالأحمق، معتبرًا خوضه الانتخابات "أمرًا مستهجنًا ويجعل الأشخاص الذين أهتمّ بهم خائفين". كما انتقد فانس في البداية سياسة ترامب إزاء المسلمين والمهاجِرين، إلّا أنّ موقفه تغيّر مئةً وثمانين درجةً عندما ترشَّح لمقعد مجلس الشيوخ في 2022. واكتشف أنّه بحاجة إلى تأييد "الترامبيين"، فكان أنْ أيَّد الادعاءات بتزوير الانتخابات الرئاسية، بل وزايد حتى على مايك بنس، نائب ترامب قائلًا: "لو كنتُ نائبًا للرئيس لكنتُ رفضتُ التصويت على النتائج".

القارئ لسيرة فانس الذّاتية Hillbilly Elegy (والتي هي على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة) يدرك كيف ربّته جدّته، التي اختار أن يحمل اسمها ـ على ألّا يستمع إلّا لدائرته المقرّبة "عائلته". وكيف كان ذلك "الالتزام" هو طريقه "للصعود" من بئْر العوَز والفقر في تلك البلدة التي يعمل ساكنوها في مناجِم الفحم، إلى "ييل" الجامعة المرموقة التي مكّنته من القفز إلى دوائر المال والأعمال "المُهيْمنة" بطبيعة المجتمع الرأسمالي.

أُقدِّر عصاميّة الرجل الذي تسوّلت جدته يومًا لتطعمه، والذي حاول يومًا أن يسرق حاسبةً صغيرةً ليتمكن من أداء واجباته المدرسيّة. وأعجبني صدْقه حين قال في كتابه: "عائلتي ليست مثالية، لكنها شكّلت شخصيتي"، إلّا أنّ ما في سيرته الذاتية من تفاصيل، ذات دلالة تبقى أبعد من تلك المشاهد الرومانسية بكثير".

في رسالة لا تخطئُها عين، كان مخرج الفيلم الذي قدّم الكتاب سينمائيًّا عبقريًّا حين بدأ مشاهد فيلمه برفض جي دي (الصّغير) نصيحة رفاقه بنزع الدّرع المكسور عن السلحفاة المصابة "لأنّ الدرع هو الحماية الوحيدة لها في تلك الغابة". كما رئيسه دونالد ترامب، "يتدرَّع" فانس بمعتقداته "الأحاديّة" المطلقة، التي يراها مهددةً لـ"الحلم الأميركي".

تُلخّص سيرته الذاتية قسْوة المجتمع كمنظومةٍ قِيَمِيَّةٍ البقاء فيها للأقوى الثّري صاحب السطوة والنفوذ

وأنا أطالع كتاب فانس؛ الأكثر مبيعًا، تذكّرتُ خطاب اليمينيين الفرنسيين بربطات عنقِهم الفاخرة، تفوح من بين شفاهِهم رائحة السيجار والنبيذ الفاخر، وهم يلوكون حديثًا مُملًّا عن سكّان الضواحي "الذين لا يليق مظهرهم بعاصمة النّور"، كما تذكّرت موقفّه (المُعلن) من المهاجرين والمهمّشين. كتاب جي دي فانس (الأميركي) لا يخلو من ترديد السرديّة "العنصريّة" التقليديّة ذاتها: طبقيًا، وثقافيًّا، بل وجغرافيًّا، فالأغنياء أبناء المُدن هم أفضل أخلاقيًّا من عُمّال المناجِم سكان التّلال "Appalachian" والذي يحكي في كتابه كيف نجح هو في أن يتخلّص من ثقافتهم الرثّة، واصفًا إيّاهم في الصفحة الرابعة من الكتاب الصادر عام 2016 بـ"المتشائمين الكسالى الجهلة، الذين لا يجيدون غير العنف". يا له من تعميم لا يخلو من تنميطٍ لأسوأ السلوكيّات من دون لوْم أو أدنى إشارة لديناميّات القهر والتهميش الرّأسمالية المسؤولة فعليًّا عن ذلك. لا ذِكْر لـ"بارونات" الفحم، كما لا إشارة البتّة لما يفعله استغلال الشركات الكبرى لعمّالها البسطاء الذي كان يومًا ينتمي إلى طبقتِهم، قبل أن يدخل عالم المال والأعمال كمحامٍ لتلك الشركات. لا تناقض هناك، بل هي حالة طبقيّة بامتياز.

تُلخّص سيرته الذاتية قسْوة المجتمع المغرق في رأسماليّته، ليس كنظام اقتصادي فحسب، بل كمنظومةٍ قِيَمِيَّةٍ البقاء فيها للأقوى، والأقوى فيها هو ذلك الثّري صاحب السطوة والنفوذ.

يحكي فانس في كتابه كيف تعرّض للتنمّر في طفولته من الأكبر سنًا والأقوى بنيةً، ثم تعرّض بعد ذلك للتنمّر ذاته، وإن اختلفت التفاصيل عندما أصبح طالبًا جامعيًّا ثم خريجًا للجامعة المرموقة، ولكن التنمّر هذه المرة كان من أولئك الأثرياء، الذين لم يتردَّدوا ذات يوم، كعادتِهم الطبقيّة أن يعايروه بعائلته الفقيرة.

الأهمّ أنّه لم يتعلّم من ذلك كلِّه كيف يدفع الظلم عن الضعفاء، بل كيف يصبح قويًّا مثل أولئك الأقوياء... وشتّان بين هذا الدرس وذاك.

أتوقع أن يكون مؤثِّرًا وليس فقط موظفًا لدى الرئيس الذي اعتاد أن يدير البيت الأبيض كما يدير شركته "العائلية"

لم تكن زلّة لسان، كتلك الناتجة عن شيخوخة بايدن، عندما وصف فانس المملكة المتّحدة بأنها "الدولة الإسلامية النووية الأولى"، في إشارة بادية العنصرية إلى عددِ المسلمين في بريطانيا، فالرّجل كان يعبّر عن موقفه "الجمهوري" التقليدي من الهجرة والمهاجرين، كما عن قناعاته، حتى وإن لم تكن الحقيقيّة، فهي تلك التي يريد أن يبيعها إعلاميًّا لجمهوره، وهي تلك التي ستنعكس حتمًا على مواقفه وسياساته.

وبعد،

فَكَأَيّ مستبدٍّ شوفيني، وفي مشهدٍ يُذكِّر بطبيعة العلاقة بين الملك وحاشيته، تَعَوَّدَ ترامب في ولايته الأولى أن يجلس إلى مكتبه في حين يقف الطّاقم الرئاسي كلّه خلفه، بمن فيهم نائب الرئيس المُطيع الصامت مايك بنس، هل سينجح في أن يفعل ذلك في ولايته الثانيّة مع نائب الرئيس الشاب "الطموح" بحكمِ سيرته؟

لا أعلم، ولكنّي أتوقع له أن يكون مؤثِّرًا، إن لم يكن اليوم فغدًا، وليس فقط موظفًا لدى الرئيس الملياردير الذي قارب الثمانين، والذي اعتاد أن يدير البيت الأبيض كما يدير شركته "العائلية"، ولذا فقد كانت محاولة "قراءته" بالتمعّن في سيرته الذاتيّة ضروريّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن