فلسطين... القضية والبوصلة

المقايضة بالمقاومة... ليس بثمن بخس!

مع بداية معركة "طوفان الأقصى" ومنذ اليوم التالي للسابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكلّ الحوارات والنقاشات مع الغرب وممثليه من ديبلوماسيين وإعلاميين وحتى العرب المناهضين لنهج المقاومة تبدأ من الجملة المفتاحية "هل تُدين "حماس"؟ (?Do you condemn Hamas)". حيث جرت في ذلك الوقت أكبر عملية تزييف واختزال للتاريخ ومحاولة لتصدير صورة الصّراع في المنطقة وكأنّه بدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بهجوم "حماس" على مستوطنات غلاف غزّة. وقتها كنت أردّ على من يطرح عليّ السّؤال عن إدانة "حماس" بالسؤال عن توقيت الإدانة، أو بمعنى أوضح "متى يجب أن ندين "حماس"؟ (?When should we condemn Hamas)".

المقايضة بالمقاومة... ليس بثمن بخس!

لم تخرج المقاومة الفلسطينية، "حماس" وغيرها، من العدَم أو اللّاشيء، لم يستيقظ شبّان فلسطينيون فجأة ليقرّروا أن يقاتلوا قوة أكبر منهم، لأنهم متوحشون ومصاصو دماء، وإنما جاءت ولادتهم كردّ فعلٍ لفعلٍ أقسى وأصعب وأشدّ قسوة هو الاحتلال، وعندما تتحدّث عن احتلال عنصري استيطاني استعماري مثل الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، أنت تتحدّث عن احتلال استئصالي كامل، يخوض معاركُه مع أصحاب الأرض الأصليين بمعادلة نحن أو هُم، وطوال عقود من الصّراع عاشت كلّ أسرة فلسطينية تحت نير هذا الاحتلال بكافّة ممارساته التمييزية والعنصرية من قتل واعتقال ومصادرة بيوت وحصار وتجويع وإهدار كرامة.

صنع الاحتلال بممارساته "حماس" كما صنع غيرها، وأوجد لها مبرّرات قبولها وبقائها واستمرارها طالما استمرّ هذا الاحتلال واستمرّت وحشيته. قبل عام 1987 لم يكن هناك شيء اسمه "حماس"، لكن كانت هناك مقاومة فلسطينية حاضرة وبأسماء مختلفة، وقبل ولادة "حماس" وقادتها الحاليين كان الاحتلال قائمًا وجاثمًا ويمارس إجرامه، حتى انتهى إلى ارتكاب الإبادة الجماعية الأصعب في التاريخ البشري الحديث طوال 15 شهرًا من القتل والتنكيل المستمر.

إقصاء "حماس" بلا مقابل لن يضمن للمنطقة ألّا تولد من رحم المعاناة الفلسطينية مع الاحتلال "حماسات" أخرى

وضعت الحرب أوزارها أو أوْشكت... وتغيّر السؤال الافتتاحي من إدانة "حماس" إلى رفض وجودها في مستقبل القطاع (?Do you agree to end Hamas' existence).

وسط أحاديث التهجير والتعمير والتخطيط المختلف لمستقبل غزّة، حملت كافة الموائد هذا السّؤال الملغوم، حتّى على الطاولات العربية وبين مداولات الديبلوماسيين والباحثين وتقديرات الموقف التي ترفعها الجهات البحثيّة لصنّاع القرار، حتّى أولئك الذين يقترحون إبعاد "حماس" بحسْن نيّة، ظنًّا منهم أنهم بذلك يسحبون من حكومة الاحتلال ذريعة العودة إلى القتال.

الدّول التي ستتكفّل بإعادة الإعمار وأغلبها دول عربية بعد تعثّر مبدئي لمقترح ترامب للتهجير، تريد - وهذا حقّها - أن تطمئنّ هذه المرّة أنّ ما ستنفقه في غزّة لن يتهدّم مرة أخرى ويعود ركامًا خلال جولة تالية من القصف الصهيوني، وهؤلاء يُلقى لهم على الطاولة ضمانة واحدة هي إخراج "حماس" من السلطة أو الإدارة ونزع سلاحها أو نشر قوات تقف حاجزًا بينها وبين جيش الاحتلال لتعمل كشرطي بالوكالة لحكومة تل أبيب في مواجهة المقاومة.

ليقايض العرب بالمقاومة لكن لا ثمن يكفي غير التصدّي لجذور المسألة وإعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس

يُخطئ العرب وغيرهم ممّن يتبنّون هذا المنطلق لو ظنّوا أنّ إقصاء "حماس" ضمانة كافية لهم، لأنه إذا كان كذلك فما ضماناتهم التي يجدونها عند تل أبيب في ظلّ أحاديث رسمية وشبه رسمية مسعورة عن تهجير الفلسطينيين وضمّ الضفّة وإخلاء غزّة ورفض "حلّ الدولتين".

إقصاء "حماس" بلا مقابل أو بثمنٍ بخس هدية لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو لا يستحقّها هو أو حكومته العنصرية، ولن يضمن للمنطقة والساعين لاستقرارها على هذا الميزان الأعوج ألّا تولد من رحم المعاناة الفلسطينية مع الاحتلال "حماسات" أخرى تختلف في الأسماء والوسائل والتكتيكات، لكنّها لن تختلف في قناعات إيلام الاحتلال والقدرة على العودة بما يُشبه "7 أكتوبر" وأكبر.

مستقبل "حماس" يسير بالتوازي مع مستقبل الاحتلال

ليقايض العرب بالمقاومة لكن ليس بثمنٍ بخس، ولا ثمن يكفي وترضاه المقاومة نفسها غير التصدّي لجذور المسألة بالتزام واضح يبدأ من اعتراف أممي كامل ونهائي بالدولة الفلسطينية لا تعرقله واشنطن بالفيتو فى مجلس الأمن، وإنهاء الاحتلال الكامل وتفكيك المستوطنات وإعلان الدولة الفلسطينية على كامل أرضها وعاصمتها القدس، وترك الشعب الفلسطيني يقرّر ويختار قياداته.

مستقبل "حماس" يسير بالتوازي مع مستقبل الاحتلال، ولا ثمن مقبولًا لأي مقايضة بالمقاومة غير هذا... وهذا فقط هو الوضع الذي يجعلنا نبيع "حماس" ونُدينها إن سعت مستقبلًا لتخريبه!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن