للحقّ فإنّ فرحَ السوريين بسقوط نظام الأسد بأقلّ قدرٍ من الخسائر، وما ظهر من وعود القيادة الجديدة بمعالجة الأوضاع ولا سيما الاقتصادية والمعاشية، كانا كفيليْن بتمريرٍ سلسٍ لانتقال حكومة إدلب إلى مهمّتها الجديدة باعتبارها حكومة سوريا، وتمّ تناسي فكرتَيْن كان لا بدّ من التوقّف عندهما: الأولى أنّ الحكومة كانت تدير مدينة صغيرة حولها بعض المدن والقرى، وحكومة بعدد محدود من الوزارات، وغياب بعض التخصّصات مثل وزارتَي الخارجية والدفاع، مما يعكس حالتيْن مختلفتيْن من التشكيل الحكومي ومهامه.
كان من الصّعب على البشير وحكومته تجاوُز الواقع الموروث من عهد الأسد بما خلّفه من دمارٍ إنسانيّ وماديّ
على الرَّغم من أنّ محمد البشير وحكومته، كانت لديهم رغبات مؤكّدة لإثبات الذّات وإنجاح تجربتهم الجديدة لأسباب كثيرة بينها إثبات أفضليّة عهدهم على العهد البائِد في المنطلقات والأسُس وصولًا إلى نزاهة الإدارة، والتعامل باحترام مع قضايا السوريين واحتياجاتهم الأمنية والمعاشية. غير أنّ الواقع مختلف عن النّوايا والرّغبات، فقد كان من الصّعب على البشير وحكومته تجاوُز الواقع الموروث من عهد الأسد بما خلّفه من دمارٍ إنسانيّ وماديّ، يترافق مع فقدان الحكومة لأي إمكانات مادية وقدرات بشرية في التعامل مع واقع ليس لديها خبرات للتعامل معه، ولم يكن مطروحًا في احتمالات مهمّاتها، على الرَّغم من أنّ مسؤولين في الحكومة كرّروا روايات متعددة عن استعداداتهم المسْبقة ليومٍ يصلون فيه إلى إدارة البلاد بحكومةٍ منهم، لكن ذلك كان في أحسن الأحوال محاولة لطمأَنة السوريين والتخفيف من مخاوفهم.
وتمخّض عهد الحكومة السورية الأولى عن فشلٍ في إدارة الدولة والمجتمع عبر عمرها القصير، وكان من مؤشِّرات الفشل غياب رؤية حكوميّة واضحة ومعلنة، وكذلك تفاوت القدرات الحكوميّة في مجالات متعدّدة، وفي تعاملها مع احتياجات المرحلة، وظهرت في مرّات كثيرة تجارب وممارسات متناقضة من جانب وزراء وموظفين كبار، واضطرّت القيادة والحكومة، ولو بأشكال غير مباشرة، للتدخل وإعادة ترتيب بعض المواقف والسياسات للتخفيف من آثار سياسات ومواقف تمّ إطلاقها واخرى أُعلن عنها.
أهم أسباب فشل حكومة البشير هو سيطرة الهاجِس الأمني على السياسات والممارسات وقلّة الخبرة السياسية والإدارية
إنّ فشل حكومة البشير في إدارة ملفات السياسة الداخلية مثل إعادة تشغيل مؤسَّسات وأجهزة الدولة الخدمية، ومنها مجالا الصحة والتعليم مثلًا، كان أمرًا خطيرًا، ومثله التقصير في حلّ مشكلة الرواتب والأجور للعاملين والمتقاعدين، وشيوع عمليات التسريح الكيْفي والواسع للعاملين في الدولة والقطاع العام، بل إنّ الوضع الاقتصادي على حساسيته وصِلته بالواقع المعاشي المتردّي في فترة انتقالية جرى إهماله، وارتُكبت فيه أخطاء كبرى مثل حالة إغراق البلاد بسلع مستهلكة كاستيراد الألبسة المستعملة التي ملأت أسواق دمشق وغيرها، ومثلها فتح الباب أمام الاستيراد الكيْفي للسيارات، لم يكن أكثر من سياسة شعبوية، تستنزف العملات الأجنبية، ويستفيد منها بعض حيتان المال والأعمال في المرحلة الحالية.
بكل الأحوال، فإنّ الأهم في الحديث عن فشل حكومة البشير، التوقّف عند أمريْن، أوّلهما أسباب الفشل المتعلقة بالحكومة ذاتها، وأهم الأسباب هو سيطرة الهاجِس الأمني على السياسات والممارسات، والتي دفعت نحو حالة من الانغلاق والانتظار في التعامل مع المستوييْن الشعبي والسياسي، وفوّتت فرصًا لعلاجات قضايا ومشاكل، وأسَّست لمشاكل جديدة مع شركاء وحلفاء مفترضين ومحتملين، وعزّزت فرص وقدرات خصوم وقوى معادية، كما كان بين أسباب الفشل، قلّة الخبرة والمعرفة السياسية والإدارية، وتضخّم الذات على مستوى الجماعة ومستوى الأفراد، وضعف القدرة على رؤية المشاكل، وإصلاح وتصحيح ما يمكن منها.
السوريون يعوّلون على الحكومة الثانية من أجل أخذهم إلى أهدافهم في الحرية والعدالة والمساواة والتقدّم
أجزم أنّ نقد سياسة الحكومة السورية الأولى والإشارة إلى ما فشلت فيه، لا يمثّل الغاية المطلوب الوصول إليها. ذلك أنّ الزّمن القصير لعمر الحكومة، ليس كافيًا لإصدار حُكْم بفشلها، بل مجرّد مؤشّر إلى نتيجة محكومة بمعطيات ووقائع، أحاطت بالحكومة في تلك الفترة.
الأهم في غاية ما تقدّم، هو الوقوف أمام فرصة تشكيل الحكومة السورية الثانية في مطلع آذار، والتي يُفترض أنّ السوريين شعبًا وقيادات، يعوّلون عليها، ليس من أجل خروج آمن من الحفرة التي خلّفها الأسد، بل من أجل أخذهم إلى أهداف السوريين في الحرية والعدالة والمساواة والتقدّم، والتي دفعوا من أجلها الكثير.
(خاص "عروبة 22")