ماذا لو نظرنا في مفهوم الكيان سياسيًّا، كالكِيان اللبناني. والكيان من مشتقّات الكيْنونة ومندرجاتها على سُلَّمِ الوجود؛ سنجدُ أنَّ الرَّبطَ التلفيقي بين الكِيان والكيْنونة يقوم على أساسٍ من التنظير الإيديولوجي الدّيني لجعل مفهوم الوطنِ ملازِمًا لهذه الكِيانية بما يتعلق بالمقدَّس. فالوهم في المسألة هو فهمُ الكيان السياسي طائفيًّا، كأنه أرضٌ مقدَّسةٌ تاريخيًّا. ويُبنى الخطاب السياسي استنادًا إلى هذا المعطى الإيديولوجي المستمرّ بالتعالي والأمثَلَةِ كلّ الوقت.
الخطورة في هذا التصوّر الدّيني لما هو سياسي في الأصل هو التأسيس المُمنهج للأعداء أو الأغيار أو المختلفين. إنّ الآخرَ المُتشكِّلَ نتيجة هذا التصوُّر المارق لمفهوم الوطن، بأنه أرض تخصّ مجموعة دينية، هو الذي يمنع قيام الدولة بمفهوم مدنيٍّ يجمع الناس على مبادئ قانونية وضعيَّة متحرِّكة قابلة للتطوير والتعديل بحسب حاجة الناس في الاجتماع البشري المنتج. ثمَّ إنّ هذا النوع من الفهم للكيْنونة داخل كِيان، أو الوجود في وطن، على أساس وظيفةٍ دينيةٍ عليا، يجعلُ الافتراق عن الامتداد الطبيعي للناس المتقاربين في ما بينهم أمرًا حتميّا. ولمّا كان الدّينُ الطائفي شديد الفاعلية في الذهنية الشعبية، فإنّ العوام هم الأشد تمسُّكًا بقدرته على تأطير الناس في مجتمعات ضيّقة متجانسة غير قابلة للاندماج الحرّ في المجتمع البشري الأوسع، بسببٍ من راهنيّة الخوف وهواجس الأمن وافتراض العداوة مع الآخر كلّ الوقت. لذلك نجد التفلُّتَ من أي قيد قانوني تضعه الدولة أمرًا لا يجعل هذه الجماعات الطائفية تشعُر بالمهانة أو النّقص في الانتماء إلى الوطن والدولة التي تحكمه.
ما تقوم به النُّخب المتفوّقة في الطائفة هو تطويع المفاهيم الكبرى لتلائم الهواجس الصغرى والأوهام الخاصّة
في هذه الحال من المروق على الانتماءات الكبرى للإنسان، تنشَأُ الأفكار الإيديولوجية التي تشرح مفاهيم حسَّاسة كالقومية والهويّة والانتماء والأمّة والدولة وغيرها، بحيث نرى أنّ فلسفةً خاصةً لهذه المفاهيم تجعلها بمستوى تقبُّلها عند أفراد هذه الجماعات الطائفيّة هي الشُّغل الشاغل للنُّخَب، أو النُّخب المتفوّقة في الطائفة أو عليها ولكن من أجلها، بسبب من التعلّم أو سعة الاطّلاع على الأفكار والمعارف الإنسانية. ما تقوم به هذه النّخب هو تطويع المفاهيم الكبرى لتلائم الهواجس الصغرى والأوهام الخاصّة، فنرى إيديولوجيات عن القومية أو مفهومًا جغرافيًّا متخيَّلًا للأمّة يخدم التديّن الطائفي أو مفهومًا دينيًّا للأمّة يخدم التديّن الطائفي، وهكذا.
والأنكى أن اجتماع هذه المفاهيم، التي صارت أشخاصًا بالمعنى الأنطولوجي لظهورها في الواقع المعيش، سيؤدّي إلى تشكيل شرعةٍ أو اتفاقات سياسية تنظِّمُ الوجودَ الحيِّزَ لكلٍّ منها في السلطة، أي تنظِّمُ المحاصَصَة. فيصبح الوطن هو السّلطة التي في الوطن، من دون إقامة أي اعتبار لاستشكال المفاهيم الرّاهنة لقيام الدول، أو تلك التي تربط الوطن بمشاريع صناعية وتجارية واقتصادية كبرى، وتجعل منه فاعلًا في العلم والثقافة والأخلاقيّات الحاضرة.
إن هذه الكيْنونة المارقة في العيش تؤدّي إلى تحريف المفاهيم في سبيل المصلحة المتفلّتة من أي انتماء، إلّا ذاك الذي يخدم اعتبارات التطيُّف الفئوي الضيّق. من هنا، نجد أنّ هذه الجماعات المارقة تدافع عن وجود بعضها بهذه الطريقة، فلا ترضى إحداها بفناء الأخرى مهما اشتدّ الخلاف، لأنّ شرعية بقائها طائفيًّا هو وجود الآخر على هذه الشّاكلة. لذا هم يواجهون الفئة التي تقيم حربًا مثلًا حتّى تعود للرضى بالائتلاف القائم داخل الوطن. ووطنيتهم تعني عدم رضاهم باضطهاد أي فئة، ولا بتسلّط أي فئة على أخرى. فالسّلطة يجب أن تجمع الكلّ ضمن محاصصةٍ تقبل هذه الخلطة.
هل يجوز أن نؤسِّس ثقافيًّا لمفاهيم الدولة والسياسة بإقحام الإيديولوجيا في تطويع الفلسفة لمصلحة العقيدة؟
ليس مستغربًا، عندئذٍ، أن تجِدَ خطابًا سياسيًّا لبنانيًّا على لسان أحد السياسيين المنتمين إلى أحد الأحزاب اللبنانية، يقول معاتبًا طائفة أخرى غير طائفته، ما مضمونه: إنّ لبنان قد ناضلنا في سبيل بنائه نحن وأنتم، منذ ألف عام و"شوي" (أي زيادة قليلًا)، فكيف تنسون ذلك، وقد جمعنا لبنان معًا، وتذهبون وتقيمون الحروب وتقيمون أحلافًا كبرى في المنطقة لندمِّر لبنان... وهناك سياسي آخر من طائفة أخرى أيضًا قال للإعلامي الذي يجري معه مقابلة: هذ اللّبنان أنا صنعته منذ 1400 سنة في وجه كل هؤلاء الذين يحيطون بنا، ولولا نضالنا لما بقي هذا الوطن و...
هذه الخطابات تؤكد مشهدية العطب في فهم المفاهيم وتحريفها. فهل يُعقَل أن نبني مفهوم الوطن على الأحقاد وائتلاف الطوائف في وجه المحيط العربي!، بدل أن نفكّر في صيغة تفهم العلاقة بين المحلِّي والكوني لوضع الأسس الحديثة في بناء الأوطان؟ هل يجوز أن نؤسِّس ثقافيًّا لمفاهيم الدولة والسياسة بإقحام الإيديولوجيا في تطويع الفلسفة لمصلحة العقيدة؟ فتبرز في كلّ مرة طائفة وتخبو أخرى في دوَّامة لا تنتهي، ويبقى العمل الحقيقي الذي تنجزه الكفاءات الأكاديمية ورجالات الدولة والقانون في سبيل التشريع والتخطيط العلمي معطّلًا، بحجّة السير وفق ظروف المرحلة. هذه الظروف التي جعلت قوانين الطوارئ العربية لا تنتهي إلّا بإسقاط الأنظمة وإحلال الفوضى، أو بإحلال الفوضى نظامًا كي لا يكون هناك أي اعتبار للقانون.
(خاص "عروبة 22")