كان عمل السيناريست الكبير الرّاحل محفوظ عبد الرحمن "بوّابة الحلواني" اقترابًا دراميًّا بلا كهنوت وحواجز من جوهر نظريّة الأمن القومي في مصر.
نظريات الأمن القومي لا تُخترع ولا تنشأ من فراغ، فحقائق التاريخ تصوغها فوق خرائط الجغرافيا.
اعتاد المصريون لقرون طويلة على القول إنّ "الذي بنى مصر كان في الأصل حلواني"، وكان ذلك نوعًا من الولع بالوطن ومواطِن الجمال فيه، على الرَّغم من كل ما اعترضه من مِحن وشدائد وغزوات جاءت أغلبها من الشّرق، سوريا وفلسطين.
بالروح نفسِها وصفوا عاصمتهم القاهرة بـ"المحروسة" اعتقادًا أنّ كلّ احتلال ينقضي وكلّ غزو يُهزم بالنهاية، وأنّها قادرة على هضم وتمْصير كلّ الثقافات والحضارات التي مرّت بالسلاح فوقها. كما كانوا يُطلقون - حتّى أوقات قريبة - على القاهرة اسم "مصر"، كأنّها تُلخّص البلد كلّه وترمز إليه وحدها.
في ذلك شيء من إرث مصر القديمة الذي تحفظه البرديّات: "الكلّ في واحد".
حفر "قناة السويس" حدث محوري في التاريخ المصري بات بعده البلد مرهونًا لصراعات النفوذ والمصالح الكبرى
بمعنى سرى في روح المسلسل فإنّ المصري "شايل حمولها ويعدل المايل" ـ كما تقول أغنية المقدّمة، التي كتبها مبدع كبير آخر الشاعر الرّاحل سيّد حجاب.
"بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين / قومي افتحي لولادك الطيبين قومي".
إلهام الشاعر أمسك بجوهر ما أراده المؤلف.. "بوّابة الحلواني" هي "بوابة الحياة" عينها.
التعبير الأول - ينصرف إلى مصر مباشرة عند حدودها الشرقية، والكلام داخل في صلب نظرية الأمن القومي والتهديدات التي تعترضها.
تاريخيًّا المصير المصري تعلّق صعودًا وسقوطًا بالحروب والغزوات التي تعبر تلك الحدود.
والتعبير الثاني - يضيف ويشرح ارتباط الأمن القومي بقضية الحياة نفسها، وأنّ إرادة المقاومة هي قصة مصر المتألمة عينها، التي تبحث عن أمل وتحنّ لأيّام عزّتها حين "نطوي الأنين بالحنين".
كان حفر "قناة السويس" حدثًا تاريخيًّا محوريًّا في التاريخ المصري بات بعده البلد مرهونًا بالكامل لصراعات النفوذ والمصالح الكبرى.
عندما علت أسواط السّخرة منتصف القرن التاسع عشر فوق ظهور مئات ألوف الفلاحين عند حفرها ولقيَ أغلبهم حتفه، كانت الإمبراطوريّتان الفرنسية والبريطانية تتنازعان الجوائز، وامتدّت المحنة حتى تأميم القناة عام 1956، وما تلاها من حروب ومواجهات.
يكاد "بوّابة الحلواني" أنْ يكون الاقتراب الدرامي الأهمّ من ذلك الحدث الحاسم في التاريخ المصري الحديث.
لم تستغرقه أيّ أحكام مطلقة ولا غابت عنه روح الإنصاف لعصر الخديوي "إسماعيل"، الذي شهِد طفرةً عمرانيةً وتطوّرًا في وسائل الحياة والتمدّن، غير أنّه وقع في مصْيَدة الدَّيْن العام بما أفضى في النهاية إلى التخلّص منه بالنّفي واستدعاء الاحتلال البريطاني لقمع الثورة العرابية.
ولعلّه العمل الأدبي والفنّي الوحيد، الذي أنصف بعمق عصر "إسماعيل"، على الرَّغم من أنّ مؤلّفه ينتمي بفكره إلى تجربة ثورة 23 يوليو/تموز 1952، التي أسقطت حُكم أسرة "محمد علي".
قرأ ملف "قناة السويس" وكلّ ما أتيح من وثائق وشهادات ورسم صورة للعصر يصعب أن يُلِمَّ بها المؤرّخون المحترفون.
تعدّدت مستويات الدراما في نسيج واحد بين ما يجري في قصر الخديوي وصراعات حاشيته ووجهاء المجتمع وأصحاب المصالح وممثلي القوى الدولية المتنازِعة على القوّة والنفوذ والمواطنين العاديين، كما روح العصر وذائقته الفنّية التي تجلّت في شخصية الموسيقي الأشهر عبده الحامولي.
كانت "قناة السويس" محور العمل بلا منازع، الذي تدور حوله صراعات ومصائر أبطاله.
وقد أضفى بطولةً إضافيةً على قرية نائية مجهولة اسمها "الفرما" أصبح اسمها فيما بعد "بورسعيد".
بطولة "الفرما" تعبير درامي وتاريخي عن حجم التحوّل في اعتبارات الأمن القومي بعد حفر "قناة السويس".
إذا اضطرّت مصر أن تُحارب من جديد فلن يتردَّد شعبها في حمل السلاح لردع التغوّل الإسرائيلي
في عمل درامي سابق لمحفوظ استلْهم من التاريخ قصة الصديقيْن اللّدوديْن، وكلاهما حكَم مصر على التوالي، "سيف الدين قطز" و"الظاهر بيبرس".
في طريق عودة الجيش المنتصِر على المغول بعد معركة "عين جالوت" اغتيل "قطز" بتدبير من "بيبرس".
في مونولوج طويل فيه حبّ ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ "بيبرس" يرثي صديقه الذي قتله للتو في رائعة "الكتابة على لحم يحترق".
أيّ لحم هذا الذي يحترق؟
إنّه لحمنا نحن والكتابة عليه تُعلِّم بقدر ما تجرح وتُلهم بحجم ما نستوعب.
بالروح نفسِها كتب سيناريو فيلم "ناصر 56"، كأنه استطراد لـ"بوّابة الحلواني".
فالقصة واحدة ومتّصلة بوجوه جديدة وأبطال جدد.
كانت رسالته أنّ كل ما له قيمة في هذا البلد يستحيل حذفه وكلّ أمل دفع المصريون استحقاقاته لا يتبدّد.
لم يكن تأميم القناة محض قرار للرئيس الشابّ جمال عبد الناصر، بقدر ما كان ردّ اعتبار للوطنية المصرية، التي أُهينت واستُبيحت ممّن كان يطلق عليهم أصحاب المصالح.
أيّ تأويل آخر لا يعرف شيئًا عن عمْق الجرح المصري، والتجهيل بالتاريخ يضرب في جذور الأمن القومي.
لهذا السبب تدفّقت إلى "بورسعيد" قوافل المتطوّعين، حملوا السّلاح وواجهوا العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي، وبدا أنّ مصر تغيّرت وتوشك أن تدخل عصرًا جديدًا.
إذا اضطرّت مصر أن تُحارب من جديد فلن يتردَّد شعبها في حمل السلاح لردع التغوّل الإسرائيلي على أمنها القومي.
خرجت مصر من السويس دولة كبرى مؤثّرة بعمق في عالمها العربي وقارتها الأفريقية والعالم الثالث
حسابات الأوطان غير حسابات البقالة، الأولى تضع نصب عينها اعتبارات الأمن القومي وقد كان التأميم قضية بلد صغير استقلّ حديثًا يطلب الحرية والكرامة، والثانية لا تعرف غير لغة الربح والخسارة.
بِقدر المبادرة والاستعداد لدفع الأثمان، خرجت مصر من السويس دولة كبرى مؤثّرة بعمق في عالمها العربي وقارتها الأفريقية والعالم الثالث.
هكذا نظر محفوظ عبد الرحمن، أبرز مؤسِّسي الدراما التاريخية العربية، إلى أعقد مسائل الأمن القومي، التي هي "بوّابة الحلواني"، أو "بوّابة الحياة".
(خاص "عروبة 22")