مراجعات

القضية الفلسطينية في الاقتصاد السياسي: توماس بيكيتي نموذجًا

يكفي أن يأخذ القارئ بعيْن الاعتبار أنّ توماس بيكيتي مؤلّف هذا الكتاب حديث الإصدار، يُلقَّب عند بعض النقّاد في أوروبا بأنّه "ماركس القرن الـ21"، حتّى يأخذ فكرةً أوّليةً عن نوعيّة ما يصدر عنه من أعمال بحثيّة، لعلّ أهمّها كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" (2013)، والذي تُرجم إلى 40 لغة وبيعت منه أكثر من 2.5 مليون نسخة، هذا من دون احتساب النّسخ المُقرْصنة.

القضية الفلسطينية في الاقتصاد السياسي: توماس بيكيتي نموذجًا

أمّا أن يكون المؤلّف يُحرِّر أيضًا في الاقتصاد السياسي، فهذا يُضيف ميزةً خاصّة إلى أعماله، ومنها هذا الكتاب الموزع بيْن محورَيْن: محور نظري (ص 7 ــ ص 54)، يهمّ عنوان الكتاب أي "نحو اشتراكية بيئيّة"، ثم المحور الثاني ويهمّ العنوان الفرعي للعمل، أي "مقالات رأي 2010 ــ 2024"، وصدرت جميعها في صحيفة "لوموند" الفرنسيّة.

تضمّن الكتاب قراءات المؤلِّف لعدّة أحداث تهمّ الساحة الفرنسية والأوروبية والعالمية، ويهمّنا هنا وقفات المؤلّف مع قضية عربية وإنسانية في آن، أي القضية الفلسطينية، بخاصّة أنّ وقفات توماس بيكيتي صاحَبَت مرحلة ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ومؤلّف الكتاب كما هو معلوم، هو خبير اقتصادي فرنسي وأستاذ الاقتصاد في كلية الدراسات المتقدّمة في العلوم الاجتماعية، ورئيس مشارك في كلية باريس للاقتصاد وأستاذ الاقتصاد المئوي في المعهد الدولي لعدم المساواة في كلية لندن للاقتصاد.

حضور الهمّ أو الأفق النظري اليساري في أعمال المؤلّف ومنه هذا الكتاب، حضورٌ جلّيٌ في عدّة إشارات، بما في ذلك عناوين بعض مقالات الكتاب، وكثرة النصائح التي يوجّهها للفرقاء اليساريين في الساحة الأوروبية، وخصوصًا في الحقليْن الفرنسي والألماني.

الخروج من تبعات اعتداءات نيويورك وواشنطن

حضور الأفق نفسه، يُفسّر الوقفات النقدية التي طالت الإدارة الأميركية في الكتاب، وفي العديد من المحطّات، كما نقرأ في ثنايا "الخروج من 11 سبتمبر/ أيلول"، ويقصد التبعات العالمية لتلك الاعتداءات، معتبرًا أنّ العالم، بعد مرور أكثر من عقديْن على تلك المحطة، لا يزال متأثّرًا بتلك التبعات، مقترحًا بعض البدائل العمليّة في هذا السّياق.

رغبة الولايات المتحدة في الانتقام لم تؤدِّ إلّا إلى تفاقم صراعات الهوية

بخصوص ديْمومة تلك التبعات، يتأسّف توماس بيكيتي على أنّ رغبة الولايات المتحدة في الانتقام وما نتج عنها من غزوات وحشيّة لمناطق ومجتمعات بأكملها، لم تؤدِّ إلّا إلى تفاقم صراعات الهوية، ومن ذلك أنّ غزو العراق في عام 2003، بدولته العظيمة تحت شعارات ومبرّرات وأكاذيب أسلحة الدمار الشامل، لم يؤدِّ إلّا إلى تقويض مصداقية "الديموقراطيات"، لا سيما مع صوَر الجنود الأميركيين وهم يحتجزون سجناء "أبو غريب" مقيّدين. أمّا الاستخدام غير المقيّد للقوّة وغطرسة الجيش الأميركي والخسائر المدنية الكبيرة بين السكان العراقيين (ما لا يقل عن 100.000 قتيل) فساهمت بقوة في تفكّك الأراضي العراقية والسورية وصعود تنظيم "الدولة الإسلامية". أمّا الفشل الكبير في أفغانستان، مع عودة حركة "طالبان" إلى السلطة في صيف 2021، بعد عشرين عامًا من الاحتلال الغربي، فإنّه يختتم رمزيًّا هذا التسلسل الكارثي.

بخصوص مقترحات المؤلّف للخروج من هذا المأزق العالمي - آخذًا بعين الاعتبار أنّ الكتاب صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أيّ في مرحلة انتقال السلطة من جو بايدن إلى دونالد ترامب - يرى توماس بيكيتي أنّ الخروج من تبعات أحداث نيويورك وواشنطن، يتطلّب بالضرورة قراءة جديدة للعالم: لقد حان الوقت للتخلّي عن مفهوم "حرب الحضارات" واستبداله بمفهوم "التنمية المشتركة والعدالة العالمية"، وهذا يتطلّب أهدافًا واضحةً ويمكن التحقّق منها للرّخاء المشترك وتحديد نموذج اقتصادي جديد ومُستدام ومُنصِف، يمكن لكلّ منطقة من مناطق الكوكب أن تجد مكانها فيه، ما دام الجميع يتّفق اليوم على أنّ الاحتلال العسكري لبلد ما لا يؤدي إلّا إلى تقوية التيارات الأكثر راديكاليةً ورجعيةً ولا يمكن أن يجلب شيئًا جيّدًا (ص 110).

صرخة المؤلّف ضدّ الفروقات الاجتماعية، سواءٌ في القارة الأوروبية أو في العالم، جليّة، وهو أحد رموز التأليف في الاقتصاد السياسي، حتّى أن الكتاب تضمّن مجموعةً من القراءات في التقارير الصادرة عن مؤسّسات دولية جادة في هذا الإطار. ولهذا يدعو المؤلّف، ونحن في القرن الحادي والعشرين، إلى الرّهان على خيار الضريبة على الثروة، وبالتحديد ثورة المليارديرات، ممّن يكرّسون تلك الفوارق الطبقيّة، مع دفع حصّة كبيرة من الإيرادات التي تقع على عاتق أغنى البلدان مباشرة إلى أفقر البلدان، بما يتناسب مع عدد سكانها وتعرّضهم لتغيّر المناخ، معتبرًا أيضًا أنّه لم يَعُد بإمكان بلدان الجنوب أن تنتظر كلّ عام حتّى يتعهّد الشمال بالوفاء بالتزاماته، وأنّه حان الوقت للتفكير في العالم التالي، وإلّا فسوف يتحوّل إلى كابوس (ص 166).

هذا طرحٌ منسجمٌ مع ما جاء في المقدّمة النظرية التي أطّر بها المؤلّف عمله هذا، والتي تشرح وتُفصِّل عنوان الكتاب (نحو اشتراكية بيئية)، عندما أكّد أنّ الانتقال من مرحلة "الاشتراكية الديموقراطية" نحو مرحلة "الاشتراكية الديموقراطية والبيئية"، والخروج في آنٍ من التناقضات التي ميّزت أداء الأحزاب الاشتراكية في الساحة الأوروبية، فإنّ الحلّ الوحيد - من وجهة نظره - يكمن في أن تقوم الأحزاب اليسارية المتحالفة مع الأحزاب البيئية، بتطوير برنامج طموح لإعادة توزيع الثروة وإزالة السلعة من حيث المساواة والبيئة، بما يتماشى مع الثورة الاشتراكية الديموقراطية في القرن العشرين. ولتحديد هذا الأفق الجديد، يضيف توماس بيكيتي أنّه من الأفضل الحديث عن "الاشتراكية الديموقراطية والبيئية" أو "الاشتراكية البيئية" أو "الاشتراكية الديموقراطية للقرن الحادي والعشرين"، مع الأخذ بعيْن الاعتبار الخصوصيّات الثقافية لكلّ بلد (ص 34).

تبعات ما بعد حرب غزّة

نأتي لبعض مواقف المؤلّف من الأوضاع العربية وخصوصًا الأوضاع في فلسطين في ضوء المآسي التي مرّت بها منذ سنة ونصف السنة، مُصرّحًا بدايةً بأنّ اليمين الإسرائيلي مُصمّم على محاربة حركة "حماس"، وأنّه حتّى في حال تحقّق ذلك، سيتعيّن عليه أن يجد محاورين وأن يُعيد إطلاق عملية سياسية، ما لم يذهب دائمًا إلى أبعد من ذلك في شكل من أشكال الفصل العنصري الإثني والإقليمي المتطوّر واللاإنساني بشكلٍ خاص (ص 203).

يرى المؤلّف أنّه إذا كانت الحكومات الغربية تدعم حقًّا "حلّ الدولتين" فيجب أن تفرض عقوبات على الحكومات الإسرائيلية

بخصوص التباين في مواقف النّخب السياسية والفكرية من خيار "حل الدولتين"، يرى توماس بيكيتي أنّ ما قد يغذي هذا الخيار، وجود بعض التيارات التي تدافع عن السلام في إسرائيل وفلسطين، إلّا أنّها أقليّة مقارنةً بالتيارات المُهيْمنة، إضافةً إلى أنّها تعمل من دون دعم خارجي قوي، ولا تتوفّر لها أي فرص نوعية للفوز في الاستحقاقات الانتخابية. أمّا موقف الدول الغربية، فيرى المؤلّف أنّه إذا كانت الحكومات الغربية تدعم حقًّا "حلّ الدولتين"، فيجب أن تفرض عقوبات على الحكومات الإسرائيلية التي تدوس عَلنًا على أي احتمال سِلمي من خلال مواصلة الاستعمار والقمع ومعارضة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو بشكل عملي وملموس، يضيف بيكيتي، يجب أن تتوقّف المساعدات العسكرية، وقبل كلّ شيء يجب على الولايات المتحدة وأوروبا أن تضرب نتنياهو وحلفاءه في الدعم المالي (ص 229).

يتساءل المؤلّف عمّا إذا كان علينا أن ننتظر حتّى تصل نسبة المذابح التي طالت المدنيين الفلسطينيين إلى 40.000 قتيل ثم 50.000 قتيل، ثم 100.000 قتيل حتى يتحقّق هذا السلام الموعود، مضيفًا أنّ التقاعس الغربي عن التدخّل، سوف ينتهي إلى تكلفة أخلاقية وسياسية باهظة (ص 231).

مواقف توماس بيكيتي في هذا الملفّ بالذّات، من أهم نقاط الضوء في الكتاب، على الأقل في الشقّ الخاص بتفاعله مع قضايا الوطن العربي، ونزعم أنّ هذا أمرٌ متوقعٌ منه لعدّة اعتبارات، لعلّ أهمّها تميّزه أساسًا في تغذية أدبيّات الاقتصاد السياسي. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن