الأمن القومي العربي

مصر والسعودية... وإشكاليّة القيادة الإقليمية!

في ظلّ غياب دولة قائدة، قادرة على وضع تصوّرها للمستقبل، باتت المنطقة خواء من الأفكار والمشروعات القوميّة، وتزخر فقط بحركات مقاومة وفصائل جهادية، تجذب إليها الفاعلين الدوليّين والطامعين الإقليميين، الذين باتوا ينظرون إليها كنقطة انطلاق لزيادة النفوذ السياسي وأخيرًا التوسّع الجغرافي.

مصر والسعودية... وإشكاليّة القيادة الإقليمية!

تاريخيًّا، تداولت دول أربع قيادة الكتلة الجيوسياسية المنسوبة اليوم للعالم العربي، توارثت جميعها الخلافة والمكانة، وهي السعودية وسوريا والعراق ومصر. وفي القرن العشرين، شكّلت ما يشبه مربّعًا استراتيجيًّا تنافست أضلاعه على القيادة على نحوٍ أثار نزاعات وتوتّرات بأقدار متفاوتة، وصلت إلى لحظة الذّروة المأساوية التي شهدت خروج العراق من ميزان الحساب الاستراتيجي عقب عدوانه على الكويت، فهزيمته في حرب "عاصفة الصحراء" التي شاركت فيها البلدان الثلاثة الأخرى تجسيدًا لمحور عربي تَبَلْوَرَ تلقائيًّا للذّود عن مفهوم السيادة، كأساسٍ لنظام جامعة الدول العربية.

خطورة اللحظة تقتضي تحالفًا كاملًا سياسيًّا واستراتيجيًّا بل وحتّى عسكريًّا لردع الهجمة الصهيو ـ مسيحية

وعلى مدى عقدٍ ونصف العقد، استمرّ المحور الثلاثي في العمل بكفاءة لضمان الحدّ الأدنى من وحدة القرار العربي، قبل أن يقع في شراك الأحداث الضاغطة كالاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، والانشقاق الفلسطيني بين "فتح" و"حماس"، وصولًا إلى الانقسام المعروف بين "معسكر ممانعة" جسّدته سوريا مع "حماس" و"حزب الله"، و"معسكر اعتدال" قادته مصر والسعودية، الأمر الذي أفضى بالعالم العربي إلى حالة ارتباك وركود وصلت إلى حدّها الأقصى مع اندلاع عاصفة "الربيع العربي"، التي استهدفت إسقاط نُظُم الحكم الفاسدة والمستبدة. لكنّ مآلاتها أفضت إلى حفز الغرائز الطائفية والنزعات المذهبية التي أحالت بعض دولنا الوطنية إلى أنهار من الدماء وعلى رأسها تأتي سوريا التي انتقلت من خانة فاعل استراتيجي يذود عن الإقليم إلى رجل الإقليم المريض الذي يتصارع الآخرون عليه، حتّى سقط نظام الأسد أخيرًا أمام "جبهة تحرير الشام" الواقعة في قبضتَيْ الإيديولوجية الإسلامويّة والهيمنة التركية، حتّى أنّها لم تأبه بالتمدّد الإسرائيلي داخل الأرض السوريّة.

هكذا اختُزل مربّع القيادة التاريخي في مصر والسعودية. السعودية بما لديها من ثروة نفطية ومكانة دينية موروثتَيْن، ومن قيادة شابة طموحة تخلّت كثيرًا عن المحافظة الدّينية والثقافية، كما تجاوزت المحافظة السياسية، وصارت تتصرّف بجرأة كبيرة في القضايا الإقليمية. ومصر بمركزيّتها الحضارية والاستراتيجية التي يصعب تجاوزها، إذ تحرسها ركائز هيكلية من قبيل جيشها القوي وكتلتها الحيوية الكبيرة وعراقتها كدولة ـ أمّة، على الرَّغم من كل ما تواجهه من ضغوط اقتصادية. لكن، ومثل كلّ العلاقات، يشوب شراكة البلدين أحيانًا نوع من الحساسية، قوامه تضارُب الأهداف أو سوء الفهم، وكلا الأمرين خطر قادر على إفساد أيّ تحالف مهما كانت درجة القربى بين طرفيه في حال توقّف الحوار الرّصين بينهما يومًا واحدًا، أو تُركت مقاديره لخطابات إعلامية ركيكة تقوم على الهجاء والمعايَرة، كما جرى بالفعل قبل أشهر أو سنوات.

لذا فإنّ خطورة اللحظة ومقتضيات المجابهة مع الهجمة الصهيو ـ مسيحية على غزّة وفلسطين، والتي تسعى إلى النّيْل من سيادة مصر والأردن بحسب خطاب دونالد ترامب، ومن سيادة السعودية بحسب خطاب بنيامين نتنياهو الذي وسّع من دائرة أطماع اليمين الإسرائيلي، إنّما تقتضي تحالفًا كاملًا، سياسيًّا واستراتيجيًّا، بل وحتّى عسكريًّا، لردع تلك الهجمة العدوانية وحفظ الحق العربي في فلسطين وربّما تحقيق نوع من السلام العادل. مثل هذا التحالف، كي يستمرّ ويترسّخ، يحتاج إلى فلسفة نقترح لها قاعدتين أساسيّتين:

التنافس لا يتناقض مع التكامل ويتعيّن تجاوز فهم القيادة باعتبارها "وراثة مطلقة" إلى كونها آلية "تضامن استراتيجي"

القاعدة الأولى هي أنّ أيًّا من البلدين لا يستطيع وحده تحمّل عبء القيادة، في ظلّ تعدّد المخاطر والتهديدات، مع سيولة التحالفات الدولية، وخصوصًا في ظلّ رئيس أميركي يميني، يكاد أن يكون فوضويًّا، يتنكّر لإرث الصداقة الذي يجمع بين البلدين والولايات المتحدة منذ أواسط القرن العشرين، ويبادر بالعدوان على الحقوق والسيادة العربيتين، مزايدًا على نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتشدد نفسه.

أمّا القاعدة الثانية فهي أنّ التنافس لا يتناقض مع التكامل، وخصوصًا في ظلّ تعدّدية وتشابك عناصر القوة الشاملة: العسكرية والاقتصادية والثقافية والروحية؛ ذلك أن تشتّتها يشلّ فعاليتها بالكلّية، أما تجميعها فيؤدّي لزيادة فاعلية كلّ منها على حدة. وهكذا فإنّ نموّ الدور السعودي الرّاهن بركائز قوته الصاعدة لا يمثّل بالضرورة عبئًا على الدور المصري التاريخي بركائز قوته التقليدية، بل هو رافعة لإسناده. وبوضوح شديد يتعيّن على البلدين الإمعان في تحالفهما من دون أيّ حساسية، وتجاوز فهم القيادة الإقليمية باعتبارها عملية "وراثة مطلقة" إلى كونها آلية "تضامن استراتيجي"، تقتضي تشارُك البُؤَر الحيّة والمراكز الأكثر فعّالية وقدرة على توجيه ماكينة العمل العربي نحو الأهداف الرئيسية لها بدلًا من التصادُم بين تروسها، خصوصًا أنّ مساحات الحرائق في الديار العربية، باتت من القوّة والاتّساع بما يستدعي طاقات الجميع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن