يعتمد ازدهار الصناعات الإبداعية على توفّر مناخ من الحرّيات الشخصية والسياسية، والرعاية والتمويل لأفكار الموهوبين الذين تقوم تلك الصناعات على مواهبهم. ولا يمكن إنجاز إبداعات حقيقية من دون حرية الإبداع والمبدعين في الثقافة والفن والأدب والفنون التشكيلية والكاريكاتير بالذات، وحتّى في العلوم الطبيعية. وتلك الأخيرة لم تنطلق في أوروبا إلّا بعد تخلُّصها من الوصاية الدِّينية التي كانت تقيّد تطوّرها وتهدّد حياة العلماء أنفسهم.
الإنتاج الثقافي غير العابئ بالقضايا الأساسية للأمّة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا لا دور له في تطوّرها وثقافتها
خلال فترات القمع وتقييد الحريات، تنفرد الإبداعات التي تتحدّى ذلك القمع والتقييد مباشرة، أو تلك التي تتحايل عليهما بالإيحاءات والإسقاطات غير المباشِرة التي تكون مفهومةً في النهاية للجمهور، بأنها هي التي يُكتب لها البقاء والخلود.
أمّا الإنتاج الثقافي التابع للسلطة والتبريري لها بالباطل، فإنّه لا قيمة له ومحدود الأثر، وغالبًا لا يمكن تسويقه بالاختيار الطوعي للجمهور، بل من خلال فرضه عبر مؤسّسات الدولة وبخاصة منصّاتها الثقافية والإعلامية. كما أنّ الإنتاج الثقافي العبثي غير العابئ بالقضايا الأساسية للأمّة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا، والذي يهرب من تقييد الحريات إلى درب التسلية، لا دور له في تطوّر الأمّة وثقافتها، وهو ابن وقته، وجماهيريّته مرتبطة بوقت صدوره.
الانهيار المالي لإعلام "المتشابِهات" التابع للسلطة
ربّما تكون معاناة وتدهور الصحافة الرّسمية ومواقعها الإلكترونية والتلفزيون كمنتجات ثقافية إبداعية في البلدان العربية المحكومة بنُظُم استبدادية، دليلًا ساطعًا على حالة الانهيار التي يمكن أن يشهدَها منتج إبداعي في ظلّ تقييد الحريات. ففي تلك البلدان، تتشابَه الصحافة العامة والخاصّة في التغطيات السياسية والاقتصادية إجباريًّا إلى درجة التطابق أحيانًا، وتتماهى كلّها مع ما تريده السلطة التنفيذية والدولة العميقة (أجهزة السلطة). كما أنّ تلك المنصّات العامة والخاصة تكون مفتوحة أساسًا للتابعين والمؤيّدين للسلطة، وبالتالي يتمّ إغلاق الباب أمام المواهب الإبداعية ذات الحسّ النقدي الضروري لتطوّر الأمم عبر نقد ما هو قائم، من أجل الإصلاح لتحقيق ما هو أفضل. ويفقد المنتَج الصحافي المقروء في تلك البلدان، غالبيّة جمهوره الحرّ الذي يتوجّه لمواقع التواصل الاجتماعي وللمواقع المستقلة التي تعمل من الخارج والتي تقدّم منتجًا مختلفًا في انتصاره للحقائق أو المصالح العامة أو لأقلام المبدعين من الصحافيين والأدباء ورسّامي الكاريكاتير.
ويتبقّى للصحافة التابعة اشتراكات مختلف مؤسّسات الدولة التي تفرض تلك الصحافة على العاملين لديها. ولأنّ مثل هذا المنتَج الصحافي التابع يكون متعثّرًا ماليًّا، فإنّ الدولة تتحمّل تكلفة دعم المؤسسات الصحافية المملوكة لها بصورة مباشرة، أو عبر إعلانات مؤسساتها، وتتجاوز ذلك إلى دعم الصحافيين في المؤسسات الخاصة نفسِها لضمان ولائهم. والأمر عينه ينطبق على القنوات الإخبارية أو التي تشكّل الأخبار وتحليلها مادة أساسية ومتكرّرة فيها، حيث تفقد في تلك الدول جمهورها الذي يتوجّه إلى القنوات الدوليّة المُناظِرة، أو لقنوات معارضة متوطِّنة خارج الحدود ويمكنها أن تقدّم بعض الحقائق والتحليلات والآراء المتنوّعة والأكثر موضوعيةً نسبيًا. وبدلًا من أن تكون تلك الصحف والقنوات التلفزيونية، مصدرًا للدخل، فإنّها تكون عبئًا على الاقتصاد وعلى الإنفاق العام كما هو الحال في الغالبية الساحقة من الدول العربية.
يجب أن تتخلّى الدولة عن فكرة الرّقيب لأنّ اقتصاديات الثقافة مرهونة بحرية الإبداع
حتّى القنوات الحكومية أو التي تديرها الدولة العميقة والتي تختصّ بتقديم الدراما والمنوّعات، فإنّ سيطرة الأجهزة الأمنيّة عليها بشكل مباشر، تعني تلقائيًّا استبعاد المبدعين الذين يملكون حسًّا نقديًّا، بما يشكّل نوعًا من تقييد ومصادرة براح الإبداع الفني ويقود في النهاية إلى خسائر مالية يتحمّلها الشعب لأن تلك القنوات مموّلة من الدولة والمال العام، فضلًا عن أنّ مهمّتها في الترويج للسلطة تتآكل بشكل تدريجي مع تدهور جماهيرية تلك الوسائل ومواقعها الإلكترونية.
ولا تقف حرّية الإبداع عند حدود الحريات السياسية والمواقف المختلفة المعَّبر عنها في الإنتاج الثقافي، بل تمتدّ للحريات الشخصية، وحريات الابتكار في الشكل والمضمون لشتّى أنواع الإنتاج الثقافي.
باختصار، يجب أن تتخلّى الدولة عن فكرة الرّقيب لأنّ اقتصاديات الثقافة مرهونة بحرية الإبداع كأساس لجماهيرية المنتجات الثقافية التي تضمن استدامتها. ويجب أن يتقبّل المجتمع التعامل مع أي منتج ثقافي مختلف عمّا هو مألوف وتقليدي بالقبول أو التجاهل أو الرّفض، من دون منع، طالما لم يَدْعُ للتمييز الطائفي أو المذهبي أو العِرقي أو النوعي، أو إلى العنف الجنائي أو السياسي كآلية للتعبير أو التغيير.
ضعف توظيف الطاقات الإبداعية
تنتشر في الدول العربية من مشرقها إلى مغربها إلى قلبها، نماذج لضعف توظيف الإمكانيات الهائلة في مجال الصناعات الإبداعية، حيث تتوفّر للعديد منها، وبخاصة في بلدان مثل مصر ولبنان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب والعراق، طاقات إبداعية تتفاوت من بلد لآخر في كلّ المجالات. وبدلًا من توظيفها في منتجات إبداعية وثقافية محلّية، تُترك لتتسرّب للخارج بسبب عدم وجود خطّة لتوظيفها ورعايتها، حيث تسير الأمور بشكل عشوائي، ويتدخّل الهوى السياسي والأمني في تجاهل بعض أهمّ المبدعين، مما يجمّد ويهدر طاقاتهم، أو يضطر بعضهم إلى الخروج لبلدان أخرى توظّف طاقاتهم وتقوم بتصدير منتجاتهم الإبداعية لصالحها.
الطاقات الإبداعية تشكّل فرصة كبرى لخلق الوظائف وتحقيق التطوّر والتنمية
وفضلًا عن الخسارة الاقتصادية من ذلك، فإنّ بعض شركات الإنتاج الفني والثقافي الإبداعي في المنطقة العربية، تختار أردأ النّماذج من بعض البلدان لترويجها، بما يسيء للصورة العامة للفن والثقافة والإبداع في تلك البلدان، لصالح تمييز الفنون والأعمال الإبداعية المُنتَجة في بلدان أخرى في الإقليم، ممّا يضاعف من وطأة خسارة الطاقات الإبداعية التي تشكّل فرصة كبرى لخلق الوظائف وتحقيق التطوّر والتنمية لمن يدرك قيمتها ويحترم حرياتها ويخطّط لرعايتها وتوظيفها.
(خاص "عروبة 22")