الوعد الإسرائيلي الأخير للدروز بـ"الحماية" سبق أن أطلقوه لكلّ أقلية غير عربية على الأراضي العربية، ذلك أنّ الاستراتيجيات الإسرائيلية قد تأسّست على دراسة هذه الأقليات منذ وقت مبكر، ووضع آليات وأدوات الجذب لها نحو دولة إسرائيل، مستغلّة المدّ القومي العربي الذي قاده جمال عبد الناصر منذ خمسينيّات القرن الماضي، وهو المدّ الذي لم ينتبه لهذه الأقليات على النحو المطلوب، ولم يقدّم رسائل مُطَمئِنة للمختلفين عِرقيًّا عن باقي العرب.
إسرائيل وراء كل محاولة لانفصال الأقليات على الأراضي العربية
وقد أسّست إسرائيل "معهد موشيه ديان" للدراسات العربية والأفريقية بغرض اكتشاف طبيعة التناقضات الثانوية الداخلية في المحيط العربي على الصعيدين العِرقي والمذهبي، وذلك بالتوازي مع تدشين علاقات متميّزة مع دول التخوم للعرب، خصوصًا إثيوبيا وتركيا.
من هنا لا يكون مستغربًا أن تكون إسرائيل وراء كل محاولة لانفصال الأقليات على الأراضي العربية، وأن تزرع المخاوف من القومية العربية خصوصًا في أذهان الأفارقة السودانيين، وهم الذين يملكون وجدانًا متشكّكًا في العرب نتيجة حالة الاستعباد التي تمّت خلال القرن الثامن عشر.
ولعلّنا نذكر في هذا السياق خطابًا لغولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، حين قالت في مؤتمرٍ لحزب العمّال الإسرائيلي عام 1960: "لقد نجحنا في إقناع الدول المحيطة بالدول العربية بإقامة "حلف الدائرة"، ليشكّل سورًا من حول تلك الدول، يدرأ الخطر ويقي هذه الدول ويصونها من حركة القومية العربية".
هذه السياسة الإسرائيلية المُعنونة بشدّ الأطراف، رسمها فريق من الخبراء تحت رئاسة ديفيد بن غوريون، في خمسينيّات القرن الماضي، وقد عملت في اتجاهَيْن متوازيَيْن:
الاتجاه الأوّل، تشتيت طاقة الدول العربية، عبر خلق تناقضات مع محيطها الإقليمي غير العربي المباشِر والمتاخِم. واستهدفت أفارقة السودان وأكراد المشرق والأمازيغ في المغرب العربي فضلًا عن الأقباط في مصر.
أمّا الاتجاه الثاني، فقائم على الاختراق الاستخباري، ودعم الأقليات، وكذلك بثّ خطاب الكراهية بين الأطراف في الدولة الواحدة، مع تشجيع خطابات الانفصال تحت رايات حقّ تقرير المصير.
يمارس قطاع من السودانيين سياسات مُفضية إلى انفصال إقليم دارفور بالتوازي مع نشاط مشهود من اليهود الأميركيين
قد تكون أهمّ نماذج النجاح الإسرائيلي في النطاق العربي، السودان، حيث كانت السياسات الإسرائيلية هي أحد أهم عوامل استقلال جنوب السودان، وقد تنجح أيضًا في تقسيمه مجدّدًا بفصل إقليم دارفور. فقد دعمت إسرائيل تاريخيًّا حركتَيْ "أنيانيا" و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة جون غارانغ في جنوب السودان بالسلاح وغيره طبقًا لوثائق نشرها ضابط المخابرات الإسرائيلي، موشيه فرجي، ووظّفت إسرائيل السياسات السودانية الداخلية التي فشلت في التفاعل الإيجابي مع تنوّعها السكاني منذ استقلال الدولة عام 1956، وهو الأمر الذي يفسّر عدم استقرارها السياسي حتّى اللحظة الراهنة، وذلك مقارنة بالحالة المغاربية مثلًا التي نجحت في كلّ من المغرب والجزائر في التعامل مع تنوعّها الإثني من حيث تدشين سياسات المواطَنة المتساوية، وكذلك الحالة المصرية التي نجحت في التعامل مع تنوّعها الدّيني تحت مظلة اندماج وطني تاريخي.
في المقابل، فإنّ السياق الدارفوري في السودان لم يستفِد من خبرة جنوب السودان في الانفصال عام 2011، وهي التي تعاني حاليًّا من صراعات مسلّحة مرشّحة للتصاعد، وسبق أن تسبّبت في حرب داخلية على أساسٍ قبلي، حيث يمارس قطاع من السودانيين حاليًّا سياسات مُفضية إلى انفصال إقليم دارفور، وذلك بالتوازي مع نشاط مشهود من اليهود الأميركيين، تحت عناوين الدعم الإنساني للدارفوريين، بينما يملك بعض القادة الدارفوريين علاقات متميّزة بإسرائيل.
تمسُّك الدروز السوريين بوحدة التراب الوطني السوري موقف لا بدّ أن يُحسب لهم لدى العرب
أمّا السياق الدرزي وفي الاختبار الأخير بعد تغيير النظام في سوريا، فنجح في إدراك المرامي الإسرائيلية النهائية في تقسيم سوريا، وربّما يكون هذا الإدراك نتيجة التفاعل الدرزي الإسرائيلي في نطاق دولة إسرائيل، حيث يشكّل الدروز حوالى 1.6% من السكان، ويجنَّدون إجباريًّا في الجيش الإسرائيلي، ولكنّهم لا يتمتعون بحقوق المواطَنة المتساوية. وفضلًا عن ذلك، ساهم الأداء الوحشي الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين في وجود حالة تملّل وانقسام في المجتمع الدرزي بإسرائيل بشأن الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، بعد تراجع ثقة الدروز بها وبمؤسَّساتها، حيث يشهد المجتمع الدرزي حاليًّا تحرّكًا ملحوظًا لرفض التجنيد الإجباري المفروض على الشبّان الدروز.
من هنا، تمسَّك الدروز السوريون بوحدة التراب الوطني السوري في موقف لا بدّ أن يُحسب لهم لدى السوريين والعرب بالكثير من التقدير والامتنان.
(خاص "عروبة 22")