الأمن الغذائي والمائي

"التصنيع الزراعي".. قاطرة للنموّ ومحاربة البطالة وتحديث الأرياف!

يُعدّ التصنيع الزراعي أحد أهم المجالات التي يمكن أن تساهم في تعزيز الاقتصاد وزيادة الدخل في الوطن العربي، إضافة إلى أنّه أداة فعّالة لمحاربة البطالة وتحديث الأرياف.

يُعنى هذا القطاع بتحويل الحاصلات الزراعية الخام إلى منتجات ذات قيمة مضافة من خلال عمليات التصنيع والتعبئة والتخزين، ممّا يؤدي إلى تحسين جودة المنتجات وزيادة قيمتها التسويقية وتقليل الفاقد منها والذي يُقدّر بما يتراوح ما بين 30% و40% من إجمالي الإنتاج الزراعي في الوطن العربي، كما أنّ التصنيع الزراعي يساعد على تقليل تأثيرات تقلّبات الأسواق، حيث يمكن إعادة معالجة المنتجات الفائضة في أوقات انخفاض الأسعار وتخزينها لأوقات النقص أو تصديرها.

فجْوة كبيرة بين الإنتاج المحلي واستهلاك المواد الغذائية المصنّعة ما يؤكّد أهمّية النهوض بالتصنيع الزراعي العربي

على سبيل المثال، محصول البندورة (الطماطم) يصل سعره في بعض المواسم في مصر إلى ثلاثة جنيهات (ستّة سنتات) كما هو الأمر حاليًّا، وهو ما قد يشكّل خسارة للمزارع الذي يضطرّ أحيانًا لتركه في الأرض ومزْجه بتربتها نتيجة ارتفاع أسعار العمالة الخاصّة بالحصاد، في حين أنّه يمكن الاستفادة من المحصول في حال تجفيفه وتحويله إلى صلصلة أو مربّات وغيرها من المنتجات، بحيث يصل العائد في حال تصنيعه إلى نحو 500%، وكذلك تجفيف الفواكه مثل التين وتحويل العنب إلى زبيب، والمشمش إلى قمر الدين، الأمر الذي يحقّق عوائد كبيرة للمزارعين، ويقلّل أيضًا الفاتورة الاستيرادية بالنسبة للعديد من الدول العربية، وقد كانت سوريا ناجحة جدًّا في هذا المجال قبل أزمتها، ولكنّ إيران وتركيا تحتلّان الآن مساحة كبيرة من أسواق المنتجات المجفّفة على حساب الدول العربية.

يَعتمد الاقتصاد الزراعي العربي التقليدي على تصدير الحاصلات الزراعية كمواد خام من دون إضافة قيمة تسويقية إليها لتذهب هذه القيمة إلى الدول المستورِدة لتلك الحاصلات الخام حيث تقوم بتحويلِها إلى منتجات غذائية ذات أسعار مرتفعة أحيانًا، المفارقة أنّ الدول العربية تقوم أحيانًا باستيراد بعض هذه المنتجات لسدّ احتياجات السكان مما يفاقِم العجز في الميزان التجاري بين الدول العربية والدول المصدّرة للمنتجات الغذائية المصنّعة والذي يُقدّر بحوالى 33 مليار دولار سنويًّا، كما وصل النموّ السنوي للقيمة المضافة للمنتجات الزراعية في الوطن العربي إلى حوالى 0.6% مقارنةً بالمتوسط العالمي البالغ 2.6% كما ورد في تقرير منظمة الزراعة والأغذية (الفاو).

ووصلت أيضًا قيمة الواردات الغذائية في المنطقة العربية إلى حوالى 132.5 مليار دولار سنويًّا مما يشير إلى الفجْوة الكبيرة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك للمواد الغذائية المصنّعة، وهذا يؤكّد أهمّية تعزيز القدرات اللازمة للنهوض بقطاع التصنيع الزراعي العربي.

يتمتّع القطاع الزراعي العربي بتنوّع المحاصيل ذات الجودة العالية بالإضافة إلى الأيدي العاملة والموقع الاستراتيجي

من هنا لا بدّ من النظر إلى ما تمتلكه المنطقة العربية من ميزات نسبيّة تجعلها قاعدة قويّة للانطلاق في مجال التصنيع الزراعي، ومن أهمّ تلك المميّزات ما يتمتّع به القطاع الزراعي في الوطن العربي من تنوّع واضح في المحاصيل الزراعية ذات الجودة العالية بالإضافة إلى توافر الأيدي العاملة والموقع الاستراتيجي الذي يربط بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا مما يسهّل التصدير والتسويق للمنتجات العربية، خصوصًا المنتجات التي تتمتّع بميزات خاصّة نتيجة لما تمتلكه المجتمعات العربية من إرث ثقافي وخبرات تقليدية في مجالات التصنيع الزراعي المحلّي والذي ينبع من البيئة والتراث العربيّيْن.

وعلى الرَّغم من كل تلك المميّزات، ما زالت هناك العديد من التحديات التي تواجه التوسّع في مجالات التصنيع الزراعي، ومن أهمّها نقص البنية التحتيّة والتقنيات الحديثة التي تُحقّق زيادة في حجم المنتجات وجودتها ومطابقتها للمعايير الدولية بما يضمن منافستها للمنتجات المستوردة، بخاصة في ظل اتفاقيات التجارة الحرّة وانخفاض تكاليف الإنتاج في بعض الدول المصدّرة للمنتجات الغذائية.

وعلى الرَّغم من كل تلك التحديات، هناك فرص واعدة لتطوير وتعزيز قدرات الدول العربية في هذا القطاع الحيوي.

ومن أهمّ الخطوات اللّازمة للتغلب على هذه التحدّيات، تشجيع الزراعات التعاقدية بين المزارعين والمصانع بما يضمن توفير المواد الخام بكمّيات مناسِبة تضمن استمرارية عملية التصنيع، ومن هنا يجب تفعيل آليات التحكيم وفضّ المنازعات بين أطراف هذه التعاقدات لضمان فعاليتها.

كما يجب الاهتمام بالمبادرات الإقليمية بين الدول العربية لتبادُل المنتجات الزراعية الخام مما يعزّز من سلاسل الإمداد وعمليات التصنيع ويقلّل الاعتماد على الاستيراد.

جدير بالذكر أنّ هناك العديد من الدول العربية التي تقوم بتصدير منتجاتها الخام إلى دول أخرى في المنطقة، حيث تُصدّر الأردن حوالى 85% من صادراتها الزراعية إلى الأسواق العربية، كما تصل النسبة إلى حوالى 75% للبنان، ونحو 61% للسودان ما يعكس الترابط التجاري القوي في المجال الزراعي بين هذه الدول وبقية الدول العربية.

بالإضافة إلى ذلك، يجب زيادة الاستثمارات العربية في مجالات البحث والتطوير ودعم الأبحاث المتعلّقة بالتصنيع الزراعي مع التركيز على تبادل الخبرات وتحسين مهارات العمالة في هذا المجال، وكنلك تحسين البنية التحتيّة من خلال خطوط إنتاج حديثة تعمل على زيادة الإنتاجية والجودة للمنتجات العربية بما يضمن زيادة الطلب عليها في الأسواق المحلية والعالمية.

التصنيع الزراعي يُـمثّل فرصة كبيرة لتعزيز الاقتصادات العربية وتحقيق التنمية المستدامة وتقليل معدلات البطالة

ويتطلّب تطوير قطاع التصنيع الزراعي تكاتف الجهود بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية، لتحقيق نهضة حقيقيّة في هذا القطاع الحيوي، خصوصًا أنّ الاستثمار في التصنيع الزراعي يُسهم في تعزيز التعليم والخدمات الأساسية في الأرياف، بما يمثّل مصلحة كبيرة للمجتمعات الريفية، فإنشاء مصنع أو عدّة مصانع للمنتجات الزراعية في قرية نائية يتطلّب إدخال الكهرباء إليها وإيفاد مهندسين وفنّيين وتدريب العمالة المحلية وإدخال مفهوم الجودة الحديث في ثقافة القرية البسيطة، وقد يصل الأمر إلى تأسيس مدارس فنية متخصّصة ونقابات عمالية، الأمر الذي يؤدّي إلى ربط هذه القرية بالاقتصاد الوطني والحضارة الحديثة.

إنّ قطاع التصنيع الزراعي في المنطقة العربية يُمثّل فرصة كبيرة لتعزيز الاقتصادات العربية وتحقيق التنمية المستدامة للقطاع الزراعي، ومن خلال مواجهة التحدّيات واستغلال الفرص المتاحة، يمكن تعزيز القيمة المضافة للمنتجات الزراعية، مما ينعكس إيجابًا على الاقتصادات الوطنية، كما سيوفّر فرص عمل جديدة تُقلّل من معدلات البطالة في معظم البلدان العربية وتُخفّف من الهجرة إلى المدن ومن ظواهر مثل التطرّف والجريمة والمخدرات التي تمثّل أبناءً غير شرعيين للبطالة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن