تمرُّ سوريا في منعطفٍ شديد الخطورة، مع تربص "أعداء الداخل" وجهات خارجية بها للعبث بأمنها ونشر الفوضى والفتنة في البلاد، التي لم تتخطَ بعد أثار الحرب الطويلة التي شنّها النظام المخلوع بمساعدة دول إقليمية وميليشيات طائفية ومذهبية استفادت من حكم بشار الاسد لتقوية مصالحها ونفوذها على حساب الشعب السوري ومصالحه ومطالبته بالحرية وبدولة ديمقراطية قوية.
وتدرك دمشق والإدارة السورية الجديدة حجم المؤمرات والمخاطر المحدقة بها، سواء من ايران التي خسرت نفوذها وسطوتها بعد خلع الأسد والذي شكل ضربة قاصمة لها ولمشروعها التوسعي في المنطقة، ناهيك عن التهديدات الاسرائيلية المتعاظمة انطلاقاً من بوابة حماية "الأقليات" والدفاع عنها، دون أن نتغافل عن المطامع الروسية ومساعيها للحفاظ على قواعدها العسكرية ومصالحها في الداخل السوري. وتتقاطع حسابات هذه الدول ومحاولتها الاستثمار في الأحداث الأخيرة وتغذيتها وتأجيجها مع محاولات فلول النظام السابق العبث بالأمن واثارة النعرات الطائفية والتفرقة، خاصة أن "الدولة العميقة" التي تكرست عبر سنوات الحكم الطويلة لعائلة الأسد، من الأب إلى الابن، لا يمكن أن تُهدم بسهولة.
كما تقف سوريا في مواجهة مخططات التقسيم خاصة مع استمرار الصراع مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي لا تزال ترفض فكرة الاندماج ووقف القتال، في وقت يبرز أن "مؤتمر الحوار الوطني"، الذي عُقد مؤخراً، لم ينجح في تقريب وجهات النظر وتخطي هوة الخلافات بين السوريين، رغم محاولات الإدارة السورية الجديدة منذ لحظة وصولها للحكم إلى اعتماد لغة الحوار وبثّ الطمأنينة. وعليه، تواجه دمشق اليوم تحديات جسيمة ونتائجها ستوضح ملامح المرحلة المقبلة، خاصة أن الإدارة الجديدة مطالبة بتحديد المسؤوليات ومحاكاة هواجس القوى الاجتماعية والسياسية على اختلافها والتعاطي بحكمة وحزم لمنع تكرار ما جرى في الساحل السوري كما الوقوف بوجه مخططات الاقتتال الأهلي والاحتراب الداخلي سعياً وراء تفتيت سوريا وتقسيمها،
من هذا المنطلق، اتهم الرئيس أحمد الشرع "فلول النظام السابق وجهات خارجية بخلق فتنة جديدة، وجرّ البلاد إلى حرب أهلية، بهدف تقسيمها"، مؤكداً أن سوريا "تعرضت مؤخراً لمحاولات كثيرة، لزعزعة استقرارها وجرّها إلى مستنقع الفوضى". وقال "سنحاسب بكل حزم ودون تهاون كل من تورط في دماء المدنيين، ومن تجاوز صلاحيات الدولة أو استغل السلطة لتحقيق مآربه الخاصة، وكل من تلوثت يداه بدماء السوريين، سيواجه العدالة عاجلاً غير آجل".
وأشار الشرع إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق في أحداث الساحل، كما لفت الى تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي، "وستكون مكلفة من رئاسة الجمهورية بالتواصل المباشر مع الأهالي في الساحل السوري للاستماع إليهم وتقديم الدعم اللازم". وجاءت كلمة الشرع مع تجدد الاشتباكات أمس بين القوات الحكومية وفلول النظام السابق في ريف اللاذقية، فيما أعلنت وزارة الداخلية السورية عن بدء تنفيذ المرحلة الثانية من العملية العسكرية في منطقة الساحل. ويأتي ذلك مع إرسال إدارة الأمن العام تعزيزات إضافية وتوسيع انتشارها في مدينتي طرطوس واللاذقية وأريافهما، سعياً وراء بسط السيطرة والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة.
وتتصدّر الأحداث السورية العناوين لأهميتها وتداعياتها على الصعيد الدولي، فيما لا تزال الأوضاع في غزّة تحتل سلم الأولويات مع استمرار الحصار المطبق من قبل الاحتلال الاسرائيلي الساعي إلى تنفيذ مخطط التهجير على قدم وساق. ويتجلى ذلك من خلال إعلان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عن استعدادات جارية لإنشاء إدارة في وزارة الدفاع لتهجير الفلسطينيين من القطاع تحت قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس. وقال "إذا قمنا بترحيل (تهجير) 5 آلاف شخص يوميا فسيستغرق الأمر عاما، اللوجستيات مُعقدة لأنك يجب أن تعرف من سيذهب وإلى أي بلد".
في غضون ذلك، تستمر تل أبيب في اتخاذ الخطوات التصعيدية واطباق سيطرتها الكاملة على القطاع وتضييق الخناق على الفلسطينيين، الذين يعانون الأمرين، حيث أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، أنه أعطى تعليماته لوقف إمداد غزة بالكهرباء. وقال "سنستخدم كل الأدوات المتاحة لنا لاستعادة الرهائن وضمان عدم وجود "حماس" باليوم التالي". هذا ويحاول نتنياهو دفع "حماس" للقبول بتمديد المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار وإطلاق سراح المزيد من الرهائن المحتجزين لديها دون الشروع في بحث الانسحاب الاسرائيلي وإعادة الإعمار، وهو ما يزال محط رفض من قبل الحركة التي تعول على ضغوط الوسطاء من أجل اعادة انطلاق المفاوضات وفق الاتفاق المبرم سابقاً، والذي تنصل منه نتنياهو بدعم من إدارة ترامب.
وقبل ساعات من انطلاق جولة جديدة لمحادثات الهدنة في الدوحة، قال مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، إن الاجتماعات الأميركية مع "حماس" بشأن إطلاق سراح الرهائن "كانت مفيدة جداً"، ولم يستبعد عقد لقاءات إضافية مع ممثليها. وإذا أوضح أنه يتفهم "الفزع والقلق الذي عبَّر عنه المسؤول الإسرائيلي رون ديرمر، بشأن التواصل المباشر مع "حماس"، أضاف: "نحن في الولايات المتحدة. نحن لسنا عملاء لإسرائيل... لدينا مصالح محددة في اللعبة". من جهتها، أوضحت الحركة، على لسان القيادي طاهر النونو، أن "عدة لقاءت تمت بالفعل بالدوحة تركزت حول إطلاق سراح أحد الأسرى المزدوجي الجنسية، وتعاملنا بإيجابية ومرونة كبيرة فيما يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني".
على الصعيد الإيراني، قال الرئيس مسعود بزشكيان إن سياسة بلاده المبدئية هي "خفض التوتر وتعزيز الوحدة"، مجدداً تأكيده أن إيران "لم تسعَ مطلقاً لامتلاك أسلحة نووية؛ التزاماً بتوجيهات المرشد علي خامنئي". كما أشار إلى استمرار التعاون مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" لضمان الشفافية في الأنشطة النووية. وجاء كلام الرئيس الإيراني خلال اتصال جمعه ورئيس الوزراء النرويجي، بحسب ما أفاد بيان صادر عن الرئاسة الإيرانية. بدوره، رأى رئيس البرلمان، محمد باقر قالیباف، أن دعوة ترامب للحوار "خدعة سياسية"، تهدف إلى نزع سلاح إيران تحت غطاء "تفاوض شكلي".
بموازاة ذلك، يواجه العراق أزمة جديدة بعد إلغاء واشنطن إعفاء يسمح لبغداد بشراء الكهرباء من إيران، وذلك ضمن حملة "الضغوط القصوى" التي يشنّها ترامب على طهران. وقال مسؤول كبير في وزارة الكهرباء لوكالة "رويترز" إن الحكومة بدأت في تنفيذ إجراءات عاجلة لتقليل تأثير القرار الأميركي على إمدادات الكهرباء في العراق. ولم تعرف بعد طبيعة الخطوات المتخذة، إلا ان التوجه قد يكون لاستيراد الغاز من دول الخليج العربي.
دولياً، علّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المناورات العسكرية المزمعة بين روسيا والصين وإيران بالقول "إنه غير قلق على الإطلاق"، متوقعاً، في سياق أخر، أن تسفر المحادثات الأميركية مع مسؤولين أوكرانيين في السعودية عن نتائج جيدة في ما يتعلق بإنهاء الحرب الدائرة منذ أكثر من 3 سنوات. وكانت وزارة الخارجية الأميركية ذكرت، في بيان، أن الوزير ماركو روبيو سيزور الرياض الأسبوع الحالي لإجراء محادثات مع مسؤولين أوكرانيين في هذا الصدد.
وفي إطار متصل، انتخب الحزب الحاكم في كندا مارك كارني زعيماً جديداً له ورئيساً للحكومة المقبلة ليحل بذلك محل جاستن ترودو، في وقت تشهد البلاد توترات كبيرة ناجمة عن الخلاف مع الولايات المتحدة الاميركية منذ وصول ترامب لسدة الرئاسة. وحذّر كارني، الذي ينحدر من خلفية مصرفية مع خبرة سياسية محدودة، في خطاب النصر الذي ألقاه في أوتاوا أمس، من أن "الأميركيين يريدون بلدنا، ولكن لا يمكننا أن نسمح لترامب بالانتصار"، مشدداً على حاجة كندا إلى "بناء اقتصاد جديد وإقامة علاقات تجارية جديدة".
ولليوم الثاني على التوالي، طغت تطورات المشهد السوري على ما عداها في الصحف العربية الصادرة اليوم، حيث:
أشارت صحيفة "الخليج" الإماراتية إلى أن "ما يجري في الساحل السوري من اقتتال، وما جرى في مدينة جرمانا وجبل العرب من قبل مؤشر على أن ما يواجه سوريا والإدارة الانتقالية الجديدة تحديات خطرة، لأنه يمس وحدة سوريا أرضاً وشعباً"، مشددة على أن "ما يحدث الآن ليس مسؤولية الإدارة الانتقالية الحالية، بل تتداخل فيه عوامل داخلية وخارجية، جراء صراع جيوسياسي في أجندات القوى الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها، مستغلة حالة ضعف النظام القائم والفراغ الأمني".
ولفتت صحيفة "الأهرام" المصرية إلى أنه "ما يضاعف من خطورة الاختبار، الذي تمر به سوريا، أنه يأتي في وقت ما زالت البلاد تمر بالمرحلة الانتقالية، التي لم تتضح معالمها بشكل كبير". وقالت "قوى إقليمية عديدة تبدي اهتماما خاصا بما يجري على الساحة السورية، نظرا للأهمية الاستراتيجية الفائقة التي تحظى بها سوريا، على المستويين الإقليمي والعربي، علاوة على العواقب التي يمكن أن تنجم عن استمرار حالة عدم الاستقرار داخلها".
وتحت عنوان "هل تضييع سوريا؟"، كتبت صحيفة "الغد" الأردنية "بعد أحداث مدن الساحل، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق، لا بل أنها اجتازت الخط الأحمر وهي تقترب أكثر من أي وقت مضى من تجربة ليبيا، وعلى نحو أكثر فداحة وشرورا، حرب طائفية تأخذ البلاد المطحونة بسنوات طويلة من الصراع الداخلي صوب التقسيم لدويلات، تتحول معه البلاد من جديد لملعب مفتوح لقوى خارجية، تتحكم بمصيرها"، مستنتجة أنه "ما يزال أمام السوريين متسع ولو ضئيل لتجاوز الكارثة والعودة لصوابهم"، على حدّ وصفها.
هذا ونبهت صحيفة "القدس العربي" إلى أن "الإجراءات التي قامت بها الحكومة السورية الجديدة، سواء ما تعلق بـ"الحوار الوطني" أو إعلان الدستور، تعرّضت إلى نقد لتهميشها العلويين، وبعض الأقليات الأخرى، وكان ذلك من ضمن أسباب التوتّر السياسي والاجتماعي الراهن"، مؤكدة ان التصريحات والإجراءات الأخيرة، على أهميتها، "قد لا تكون كافية لمعالجة التصدّع الكبير الذي أصاب السلم الأهلي ما لم تحصل تطوّرات سياسية أخرى كبيرة، تساهم في ردم الفجوات المتزايدة، والشرخ الكبير الذي أصاب النسيج السوري".
من جهة أخرى، رأت صحيفة "الرياض" السعودية أن "التحدي الإيراني، يشكل معضلة متعدّدة الأوجه لإدارة ترامب، فعلى الرغم من أن إيران تبدو حاليًا "مهزومةً وضعيفةً" نتيجة سلسلة من الإخفاقات الداخليّة والخارجية وتأثر مناطق نفوذها الإقليمية بالمتغيّرات الأخيرة، إلا أنه من المرجح أن تسرع برنامجها النووي"، معتبرة أنه "سيتوجب على ترامب إعادة تقييم أسلوب تعامله مع مختلف الجماعات والأقليّات في المنطقة، وعليه كذلك أن يحدد بدقة مستوى الانخراط الأميركي بما يتلاءم مع التحولات التي تشهدها موازين القوى في المنطقة والعالم".
ومن وجهة نظر صحيفة "الوطن" البحرينية، فإنه "من الواضح أن إدارة ترامب تقوم بإعادة ترتيب الأوراق بالشرق الأوسط من دون النظر إلى الدول الفاعلة في المنطقة، وهذا الأسلوب قد اتبعه في ولايته الأولى، وسبقه باراك أوباما، ونتج عن ذلك أزمات متعاقبة منها زيادة النفوذ الإيراني وظهور خلايا إرهابية وعدم الاستقرار"، متسائلة "هل سيتكرر المشهد بصورة مماثلة وبنفوذ دول أخرى بالشرق الأوسط لمعاودة افتعال الأزمات، أو أن ذلك تهيئة لمرحلة من النماء والازدهار؟".
(رصد "عروبة 22")