نعلم أنّ الروّاد النهضويين الأوائل في مصر ولبنان وتونس قد بثّوا أفكار الدستور والمواطَنة. وقد نشأ جيل بين أولئك الذين درسوا في المعاهد التي أقامتها الدولة أو في المدارس الإرسالية في الدول المذكورة أعلاه، تمثّلوا أفكارًا حديثة في الحرية والوطن والمساواة وهي الشعارات التي أطلقتها الثورة الفرنسية. يُضاف إلى ذلك الذين درسوا في جامعات الغرب وخصوصًا فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذين عادوا إلى بلدانهم ممتلئين بالأفكار الحديثة التي تنطوي على قيَم المواطَنة التي يضمنها الدستور، رأوا أنّ التحديث ليس في الأفكار وإنّما أيضًا في السلوك الاجتماعي والمظهر الخارجي والعادات وغير ذلك.
التحديث على مستوى التعليم أو في بناء المؤسَّسات لم يكن يصل سوى إلى عدد محدود من مجموع السكان
وقد ظنّ أولئك الروّاد الأوائل أنّ تقدّم المجتمع لا يحتاج إلى أكثر من نقل هذه الأفكار وما تحمله من قيَم عبْر التعليم والتربية، لهذا نجد أنّ النهضويين الأوائل قد أوْلوا مسألة التعليم، بما في ذلك تعليم المرأة كما هو معلوم، الاهتمام الأول في أعمالهم وكتاباتهم. واعتقدوا أنّ التعليم والتربية كفيلان بنقل هذه القيم إلى كلّ المجتمع، وأنّ التربية تؤدّي إلى ولادة إنسان جديد غير ذلك الأمّي الذي لا نصيب له من الحداثة وغير أولئك الذين يؤمنون بالخرافات والخوارق. من هنا كان التشديد على العقلانيّة ضد الغيبيّة.
وعبَّر عدد من المفكرين والكتّاب عن التفاؤل بأنّ القيَم الحديثة تستطيع أن تنهض بالمجتمع، وهذا ما نجده في المؤلّفات المبكرة عند أحمد لطفي السيد في مصر، كذلك فإن سليمان البستاني مترجِم "الإلياذة"، كتب: "الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، وبأنّ خمسًا وعشرين سنة كافية لتنهض الدولة العثمانية وتتخطى كلّ المصاعب وتسير في ركب الأمم الحديثة.
إلّا أنّ التحديث على مستوى التعليم، أو في بناء المؤسَّسات أو غير ذلك، لم يكن يصل سوى إلى عدد محدود من مجموع السكان وأنّ الذين التحقوا بقيَم الحداثة كانوا ممّن التحقوا باقتصاد العالم الغربي من التجّار أو من الملّاكين الكبار. وقد أدّى التحديث عمليًّا إلى انقسام المدينة إلى حيّز حديث عمرانيًّا على النمط الغربي وإلى حيّز تقليدي لم تصل إليه الخدمات، وأكثر من ذلك أيضًا فإنّ الالتحاق باقتصاد عالمي وتمركز الأعمال في المدن أدّى إلى هجراتٍ من الأرياف إلى المدن، ستتفاقم خصوصًا في مراحل بناء الحكومات الاستقلاليّة بعد خروج المستعمِر.
لم تكن ثقافة المواطَنة في الواقع سوى عقيدة النظام الذي أراد أن يُخضع المواطنين للسّلطة
والتعليم الذي عوّل عليه النهضويّون والمحدّثون كان في واقع الأمر ينطوي على شروخٍ فالطالب كان يتلقّى العلوم الحديثة باللغات الأجنبية ويتلقّى سائر المواد بالعربية التي يتم تلقينها على أيدي خرّيجي المعاهد الدينية. في الوقت عينه، كانت المدارس الدينية أو التقليدية تخرّج طلابًا ليس بين مواد تعليمهم ما يتّصل بالعلوم الحديثة في مجالات العلوم التطبيقية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وإذا كان بعض المتعلّمين قد تأثروا في الثلاثينيّات والأربعينيّات بالتيّارات الرّائجة في أوروبا، مثل الشيوعية والاشتراكية القوميّة والفاشيّة، وأسَّسوا أحزابًا تتّخذ من هذه الإيديولوجيات عقائد وبرامج عمل للتغيير الاجتماعي والسياسي، فإنّ خرّيجين من معاهد أخرى كانت لديهم ردود أفعال وأفكار أخرى، ووجدوا أنّ الأفكار الغربيّة تنتهك ثقافة ومعتقدات العامّة من الأهالي. وكان لهذا التيار "الأخواني" أن ينتشر سريعًا، ووجد حقلًا خصبًا في أوساط الذين كانوا يرون أنّ التغريب في الأفكار والسلوك إنّما هو ابتعاد عن أخلاقنا الدينية والشرقية، وأنّ قلّةً قليلة هي التي استفادت من التغريب في الثقافة والاقتصاد.
أزمتنا العميقة في العالم العربي تكمُن في اختلاف القيَم التي نحتكم إليها
لم يكن يقتصر الأمر على صراع أفكار، وإنّما تعلّق باختلاف القيَم بين البيئات التي تبنّت الحداثة، وتلك التي لم يستطع التحديث أن يصل إليها ولم يُغيّر التعليم من قيَمها، مما أدّى إلى تعدّد البيئات، ولكلّ بيئة قيَمها وأعرافها. وإذ ادّعت الأنظمة الوطنية أنّها تعمل في سبيل إيجاد المواطِن الذي يحتكم إلى قانون واحد، لم تكن ثقافة المواطَنة في الواقع سوى عقيدة النظام الذي أراد أن يُخضع المواطنين للسّلطة، مما زاد في الشروخ الاجتماعية وتنافُر البيئات وعزلتها بعضها عن بعض.
إنّ المجتمعات التي تخضع لتداول السلطة تعترف بالتعدّد والتنوّع العقائدي والسياسي، ولكن ضمن ثقافة واحدة وقيَم واحدة والاعتراف بقانون واحد يخضع له كافّة المواطنين. أما أزمتنا العميقة في العالم العربي فتكمُن في اختلاف القيَم التي نحتكم إليها، ولم تفعل الحداثة سوى أنّها أضافت قيَمًا على قيَم وفشلت الأنظمة التي حكَمتنا في ردْم التفاوُت في التنمية بين المدن والأرياف والبادية. ولم يكن التحديث سوى قشرة رقيقة لا تستطيع أن تحجبَ رسوخ التقاليد والأعراف الموروثة.
(خاص "عروبة 22")