لعلّ أكثر صور التباين بين "القديم" الدي يُراد الانتهاء منه و"الجديد" الذي تسعى الحداثة إلى إرساء قواعد الأخذ به، القول بوجوب التمييز، في مجال العمل والسلوك الاجتماعي، بين دائرتين أو محيطين كبيرين هما محيط أو دائرة العام المشترك ودائرة أو محيط الفردي والخاص (Public sphère & private sphère) . والأهم من ذلك عندنا إقرار مبدأ التمايز بين العالمين وقبول ما يكون عن ذلك من تبعات - وهذا أولًا. ثم إنه، ثانيًا، اتفاق على مضامين وحدود كل من العام والخاص والعمل بما يكون عن ذلك الفصل من تجلّيات في الوجود البشري (في المستويين الفردي والجماعي، المادي والفكري).
السلطة السياسية شأنٌ بشري خالص ليس لها صفة القداسة
تتّصل دائرة العام بكل ما كان متعلّقًا بالوجود الاجتماعي للبشر في تجلّياته المختلفة أي بكلّ ما كان راجعًا إلى شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع، وبالتالي متعلقًا بتنظيم أنماط أشكال ذلك الوجود وكان، في كلمة واحدة، ذا صلة بالعيش المشترك وبتدبيره. وأما الثاني فيرجع إلى المسائل التي تتعلّق بالشخص من حيث هو فرد يحمل مجموعة من الرؤى والمعتقدات ويمتلك حسًا جماليًا ونزوعًا روحيًا، يحقّ له أن يكون مشتركًا فيه مع الغير مثلما يجوز له أن يكون منفردًا به، وفي الحالين معًا ليس يكون للغير الاعتراض على ذلك.
الحق أنّ هذا الأمر الذي يدخل اليوم في عداد الأمور البديهية هو ثمرة سيرورة تاريخية طويلة، ومعقّدة، ونتيجة صراع عرفته الإنسانية (في بلاد الغرب الأوروبي خاصة) بين قوى اجتماعية وتصورات أيديولوجية متناحرة. يصح القول، إجمالًا، إنه أحد تجلّيات الدولة الحديثة، تلك التي تقوم، في جوهرها، في إدراك صفة "المواطن" (تمييزًا له عن الإنسان الفرد) وصفة "المواطنة" (من حيث انها الرباط الذي يقوم بين المواطنين) - وهذا من جهة. وفي بلورة معنى الدولة من حيث انها تنظيم للوجود البشري يقوم على جملة من المبادئ نذكر منها العقل والحرية والإرادة العامة، ونذكر منها اعتبار السلطة السياسية شأنًا بشريًا خالصًا فليس للسلطة صفة القداسة إلا متى كانت احترامًا لميثاق الإرادة البشرية الحرّة والتعبير عن الإرادة العامة للمواطنين - وما اتصل بهذه المعاني وكان إجلاء لها - وكل هذا من جهة ثانية. وبموجب ذلك فإنّ لكل من الدولة والمواطن مجموعة من الحقوق، في مقابلها جملة معلومة من الواجبات والمسؤوليات.
العالم العربي في حاجة إلى قبول التمييز بين "العام" و"الخاص" وإجلاء المعنى الحقّ لصفة "المواطنة"
يبدو لي أننا، في عالمنا العربي، لا نزال في حاجة إلى قبول التمييز بين دائرتي العام والخاص – من حيث انهما عالمان اثنان متمايزان. ويبدو لي، كذلك، أننا في حاجة أكيدة إلى إجلاء صفة "المواطن" والمعنى الحق الذي يتعيّن أن يكون لصفة "المواطنة". ثمة بون شاسع بين التلفظ بكلمة "المواطنة" وبين استبطان دلالات اللفظ استبطانًا وحمل العقل والوجدان- خاصة - على التشرّب بها. وغنيّ عن البيان أنّ معنى هذه الصفة الأخيرة يكمن في "الاختلاف" وفي الحقّ في تقريره مبدأ وفي التقعيد لشروط العيش المشترك على نحو يراعي ذلك الحق ويؤكده في الوقت نفسه.
ربما وجب التنبيه، من جهة أخرى، أنّ القول الفصل بين دائرة "العام" و"الخاص"، في العديد من دول الغرب الأوروبي والأمريكي، لم يتأكد بصفة قطعية وواضحة. وعلى سبيل المثال لا تزال دلالة "اللاييكية" أو "السيكولاريزم" قضية تطفو على ساحة الوعي وتملأ الساحة في صخب غير قليل. وإذن فلا غرابة في أن يكون الغموض، في معيشنا العربي، لا يزال يلفّ المسألة برمّتها، في جوانب منها ومن الشجاعة أن نعترف، لأنفسنا أولًا، أننا لا نزال في حاجة ماسة إلى تدشين القول في مسألة الشأن العام والمجال الخاص والعلاقة بينهما.
(خاص "عروبة 22")